مقالات

ثلاثون ثانية لإدخالي الجنة !

نوزت شمدين

منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا مكتفٍ بمتابعة ما يجري في العالم ومن حولي، بصمت. لا يمكنني القول بأنها استراحة محارب، بل هو شيء يشبه كسل هرٍ في خريف عمره، وأحياناً يسوء الأمر في تقديري بنحو أكبر، فأشعر بأنني مطرقة، فعلت ما يتوجب عليها فعله في حياتها المهنية، وتركت في صندوق المهملات لتقضي هناك فترة تقاعد طويلة.

ولا أعرف كيف فطن مبشرو شهود يهوه اللحوحين لعزلتي، فأنا بالكاد أمنح لستائر النوافذ المطلة على الشارع شبر إزاحة في الأيام النادرة التي تشرق فيها الشمس هنا في النرويج، نهاية العالم، حيث هربت.

كان صباحاً خريفياً ممطراً عندما بدئوا محاولتهم الأولى لإخراجي من الظلمات إلى النور وفقاً للواجب الديني الذي تكفلوا به. قُرع جرس الباب، فتجاهلته. وبعد ثلاثين ثانية قرع مرة أخرى، فكان ردي بتلويحه من يدي كأنني أهش ذبابة، وتابعت قراءتي لرواية قلم النجار لمانويل ريفاس، وأنا شبه مدفون في مقعدي الجلدي بقلب الصالة.

بعد ثلاثين ثانية قُرع الجرس مرة ثالثة !

في مدينة الموصل، شمالي العراق، التي اتيت منها قبل نحو عشر سنوات، يمكن لبابك أن يطرق في أي وقت من النهار والليل، قد يكون واحداً من أقربائك قادماً من مدينة أخرى ليفاجئك بزيارة تستغرق مبيتاً لعدة أيام، أو جاراً يفرك يديه ببعضهما وهو يطلب بحرج حبتي بندورة أو قليلاً من الملح وربما رغيفاً من الخبز أو صبياً حافي القدمين يريد استعادة حمامته التي حطت على سطح منزلك أو متسولاً يعرض عليك تعديلات على قائمة حسناتك اليومية بأدعية ذات نغمات خشوع مدروسة يرددها مقابل عدة دنانير أو أي شيء قابل للأكل أو اللبس أو البيع، وقد تكون امرأة تسأل إن كانت هنالك في المنزل فتاة بعمر الزواج لأبنها المتعين حديثاً في دائرة البلدية.

ولنكن واضحين، يحدث ذلك في الموصل، على بعد 2972 كيلومتراً عن بيتي، أما في النرويج، لا يمكنك حتى زيارة جارك المريض للاطمئنان عليه إلا بموعد مسبق، والأوغاد الذين كانوا يقفون تحت وابل المطر أمام بابي في تلك الساعة، يعرفون جيداً هذه القاعدة الاجتماعية غير القابلة للتجاوز، لكن مع ذلك منحوا لأنفسهم استثناءً.

لا تتذاكى، وتعتقد بأن تجاهلك لقرع الجرس سيجعل جماعة يهوه يعتقدون بأنك خارج المنزل. فهم يمدون سباباتهم الطويلة البيضاء إلى جرس بيتك لأنهم يعرفون أنك بالداخل، ويمنحونك بين القرعة والأخرى ثلاثين ثانية قد تكون كفيلة بإدخالك الجنة وفقاً لظنهم. ربما حصلوا بطريقة أو بأخرى على معلومات كاملة عنك من أحد موظفي الكمونة، ووضعوا على أساسها خطة محكمة لمراقبتك وتتبع خطواتك، للقبض عليك ومنحك فرصة قد تكون الأخيرة لتتعرف بها على يهوه، أي الله.

لكن قبل أن تقدم على تلك الحماقة، يتوجب عليّ تحذيرك “فتح باب المنزل لرجل دين، يعني السماح لشيطان ما بالدخول”. ولكي لا يفهمني الملالي والسادة والقساوسة والحاخامات والرهبان وأي رتبة دينية أخرى بنحو خاطئ، فأنا أعني برجل الدين هنا، كل من يحاول الحصول على شيء مقابل توسطه بينك وبين السماء، حتى وإن كان عبارة عن حفنة من الحسنات!.

أدرتُ المقبض بهدوء، فانفرج الباب عن ثلاثة وجوه باسِمة، كانوا رجلين، أحدهما شابٌ نحيلٌ بملامح فتاة، والآخر بمثل سني، في عقده الخامس، مع فارق طول لصالحه قدرتُه بربع متر، ومعهما امرأة متوسطة العمر بدا عليها التوتر، وثلاثتهم كانوا متوشحين بالسواد وعلى رؤوسهم أغطية مطرية.

كان من الواضح أنهم متهيئون لثلاث احتمالات عمرية، وقد تدربوا جيداً على الحركة التي قاموا بها بمجرد أن شاهدوا وجهي العابس ونظرتي غير المبالية، إذ وقف الاثنان خلف الرجل الذي أخرج بارتباك كتيبات عديدة من حقيبة صغيرة كانت معلقة في مكان ما تحت وشاحه المطري الأسود الفضفاض، سألني بصوت خافت وهو يمدها متجاوزاً بها عتبة الباب ليقيها من المطر: “هل تعرف الأنجيل؟”.

أخذت وقتي في الإجابة، فالجزء الشرير مني، استمتع بمشهد الغربان الثلاث وهم تحت قصف المطر، أراد إبقائهم بتلك الوضعية لساعات طويلة عقاباً لهم على إزعاجهم لي. قُلت أخيراً بنبرة غير واثقة: “نعم أعرف” وأظنها كانت أقرب إلى:”وماذا يعني!”. فراح الرجلُ يُقلب الكتيبات بخفة لاعبي البوكر، وسألني وهو يحاول ضبط فارق الطويل بيننا: “بأي لغة يمكنك القراءة؟”، استغرق صمتي بضعة ثوانٍ، وعاد ليسأل: “هل بوسعك القراءة؟”.

جزئي الشرير أجاب على الفور رداً على ما عدها إهانة: “كلا لا أعرف” وحفزني على أن أصفق الباب بوجوههم وصوته يضج في رأسي بالشتائم. مَدت لهُ ذراعٌ من الخلف يرجح أنها للشاب، هاتفاً من نوع آيفون، أخذه الرجلُ بيد بينما أعاد بالأخرى الكتيبات إلى الحقيبة تحت وشاحه، وجاوز به أيضاً عتبة الباب ليمنع عنه المطر، سألني بارتباك وهو يشير لي بشاشة الجوال المليئة بمقاطع فيديو: “بأي لغة يمكنك التحدث، أعني ماهي لغتك الأم؟”.

أخبرته بخبث أنني كرديٌ وأتحدث الكرمانجية، وهي حيلة أتقنتها في أوربا للتخلص من المتطفلين في محطات القطارات والمطارات والحافلات، ولا أعرف لم في تلك الأماكن بالذات، ينجذب البعض إلى مغناطيس سحنتي الشرقية. وجهٌ دائري مثل كرة سلة، وعينان منبهرتان على الدوام وخدان منتفخان كبالوني عيد، وأنف كبير يبدو أنه لن يتوقف عن النمو، مع كرش يترترج مع أي حركة، وقد تكون مواصفاتي الشكلية هذه، تسبب لهم افراطاً في تدفق هرمون الحنين لأوطانهم، فيندفعون نحوي للحديث معي. يقتربون بخطوات حذرة كأنهم أمام مزار مقدس، يسألون بإرتباك:”هل أنت عربي؟” أو “هل أنت كُردي؟” أو”هل أنت تركي” وأحدهم سألني ذات مرة وهو يهز رأسه يميناً ويساراً وكفاه مطبقان على بعضهما في وضعية صلاة “هل أنت هندي؟” ويبدو أن هذه الاحتمالات الأربع هي أكثر ما يخطر على بال من يلمحني، بزيادة في هرمون الحنين أم بدونه. وعلى أية حال، إجابتي تعتمد على اللغة التي يتحدث بها من يسأل، فإن تحدث بالعربية، أجبتُ بالنرويجية، وإذا فعل ذلك بالكردية، راوغتهُ بالعربية، وإن سأل بالتركية، أجبته بالإنكليزية.

ظننت بأن تلك الاستراتيجية قد تنفع مع جماعة يهوة، فلم أتوقع أبداً أن تكون الكرمانجية ضمن قائمة اللغات الطويلة التي يستخدمونها في وظيفتهم التي ترتكز بالأساس على إزعاج الناس الآمنين في بيوتهم. ضغط الرجل بحماس على الشاشة التي رفعها بالعرض إلى الأعلى، فارتفع الصوت:” Bavê me yê li ezmanan……” وترجمتها الحرفية “أبانا الذي في السماوات.. “. وضعتُ كفي الأيسر على الشاشة وابعدتها بهدوء، ظهر رأس الشاب من جهة الرجل اليمنى ورأس المرأة من جهته اليسرى، كأنهما نميا للتو من جذعه، وأخذ الثلاثة يترقبون باهتمام ما سأقوله، وفي وجوههم ابتسامة قلق.

“أنا لا أستحق العناء” قُلتُ، لأبين لهم أنهم يضيعون أوقاتهم التبشيرية الثمينة مع شخص قطع خلال حياته المليئة بالمآسي شوطاً طويلاً في بناء اعتقاده الخاص، ولا يمكنه الرجوع عنه بمجرد أن يقف ثلاثة معتوهين أمام بيته تحت المطر ومعهم كتيبات وهاتف جوال من نوع آيفون.

ولكي أكون منصفاً، فان جماعة شهود يهوه، وعلى الرغم من أنهم يفتقدون إلى الحس الاجتماعي، ويظهرون على الأبواب بدون استئذان، إلا أنهم لا يجادلونك في آرائك، ليس لأنهم لا يملكون الوقت لذلك أو يفتقرون إلى الحجج لأقناعك، بل لأنهم يحاولون قدر الإمكان استثمار فتحك للباب وعدم غلقه مباشرة في وجوههم.

قال الرجلُ وهو يعيد الهاتف من فوق كتفه للشاب “كل المخلوقات التي على هذه الأرض، مهمة وتستحق….” قاطعتهُ بشيء من الانفعال: “ولكن فقط 144000 ألفاً من المختارين بعناية إلهية سيذهبون إلى الجنة وفقاً لمعتقدكم، والبقية من الصالحين، سيعيشون في فردوس يقام لهم بالأرض”، ثم سألته: “أليست هذه طبقية؟ أناس فوق وآخرون تحت؟” فوجئ الرجل بحديثي غير المتوقع، شابك أصابع يديه ببعضها وقال بنبرة وديعة: “الأمر يحتاج إلى شرح….”، قاطعته مجدداً. أعلم بأنه من غير اللائق أن يقاطع شخصٌ بالغ مثلي الآخرين، لكن الوضع الذي كنت فيه دفعني لذلك، فلقد كُنتُ متجاوزاً عليه، وثمة خرقٌ قد حدث لعزلتي وأرغمت فوق ذلك على الحديث في أمر لطالما اعتقدت أنه شخصي ولا يحتاج إلى مرشدين أو كتيبات أو أجهزة آيفون.

“بماذا تختلفون عن الأديان والطوائف الأخرى؟ أتباع كل واحدة منها يعتقدون بأنهم على حق، والأخرون من أتباع الأخرى سيحترقون في نار أزلية أو في الأقل لن تشم أنوفهم رائحة الجنة!”. سعل الشاب مرتين وأراد أن يقول شيئاً لكنه تراجع، ربما جذبتهُ المرأة من ثيابه ليصمت أو رفسه الرجل مذكراً إياه بسلطته. هز الرجلُ رأسه بثقة وقال: “ستتحقق في نهاية الأمر مشيئة الله”، قلدت حركة رأسه وأنا أصحح له “تقصد يهوه!”.

“هنالك مئات من الذين وصلوا البلاد مؤخراً هاربين من الحروب والمجاعات والأمراض وحظوظهم العاثرة…” فكرتُ في عبارتي التالية، وقررتُ عدم التفوه بها لكي لا أبدو قليل أدب، غير أن جزئي الشرير منحني إذنا، فقلتُ وسبابتي موجهة إليهم “ورجال دينٍ مثلكم!”، لمحتُ يد المرأة ترتفع ثم تعود بسرعة لتختفي، كأنها أرادت الاعتراض على اعتبارها رجل دين.

طغى صوت المطر على كل شيء، وسبابتي التي كانت ماتزال في الهواء، أعلنت وبوضوح تام أن تلك المقابلة قد انتهت، فانسحب الثلاثة بهدوء وسارواً مبتعدين واحداً خلف الآخر، الرجل في الأمام وخلفه الشاب ثم المرأة التي تلفتت ناحيتي مرتين وملامحها متوقفة عند لحظة الهلع.

لم أصغِ لجزئي الشرير وهو يدعوني للاحتفال بما عده نصراً تحقق لي، فواقع الأمر هو أنني تعاملت بنحو غير ودي مع أناس أدوا وبغاية اللطف ما يرونه واجباً. ولو شطبنا الجزء المتعلق بقرعهم للجرس ومضايقتهم لي في منزلي، لبدوت في ذلك الموقف شخصاً غير متحضر تماماً.

لكن ثمة سبب آخر لا علاقة له بالتطفل والإزعاج، يكمن وراء ظهوري مثل ديكٍ منفوش الريش أمام ضيوفي غير المرحب بهم في ذلك اليوم، وهي الشائعات الكثيرة التي سمعتها من قبل عن استغلالهم للأوضاع النفسية والمعيشية للاجئين، ولا سيما أولئك الهاربين من بلدان تنشط فيها مجاميع مسلحة تستخدم الدين غطاءً لها، فيصلون منهكين ومتشككين في معتقداتهم، وبعضهم يكون جاهزاً لاستقبال بدائل إيمانية تتوافق مع حياتهم الجديدة، مقابل امتيازات معينة كالإقامة والعمل.

في مطلع كانون الأول، قام شهود يهوه بطلعتهم الثانية. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً عندما خرجتُ منتعلاً جزمتي الطويلة وفي يدي قفازي الجلديين السميكين لأجرف الثلج المتراكم أمام العتبة، وأفتح ممراً من هناك نحو الشارع.

أرسلوا تلك المرة رجلين بوجهين حليقين ممتلئين يصعب على المرء التفريق بينهما لشدة التشابه في ملامحهما، كأنهما حبتا بطاطس قطفتا من مزرعة بعيدة وزرعتا مجدداً في الثلج أمام منزلي. حياني الأول بانحناءة بسيطة وحركة من يده، قلده الثاني، وقال متأتئاً: “صباح الخير”.

“إذن واحدة في الأقل من الشائعات المتعلقة بكم صحيحة” قلتُ وأنا أقذف بحمولة المجرفة، نظرا لبعضهما باستغراب. “ألستما من شهود يهوه” سألتهما وأنا أغرز المجرفة في الثلج وأستند عليها بكلتا يدي.

هزا رأسيهما، فتابعت مبتسماً: “الشائعة تقول بأنكم تلحون كثيراً في الظهور أمام الأبواب إذا لم يتم منعكم بوضوح بأن لا تفعلوا ذلك مجدداً!”، تقدم الأول نحوي بخطوة واحدة وقال بطريقة مندوبي المبيعات “هدفنا أن تجد الحقيقة والخلاص”.

حطَ غرابٌ على مسافة قريبة منا وأخذ ينعق ويدور حول نفسه، فكرتُ بقناعتي التامة أن بوسع الناس جميعهم الوصول إلى الحقيقة والخلاص دون حاجة إلى مرشدين، سألتهُ بذهن شارد: “الن يجعلنا الوصول مُنقادين اليهما، مختلفين عن الآخرين، عن مليارات من البشر الذين توصلوا إلى الحقائق والخلاصات الخاصة بهم؟”.

أخرج الرجل الثاني مجموعة كتيبات من حقيبة يد جلدية، وناولها للأول كأنه يقدم له أدلة ثبوتية لدحض ما قلتهُ. “أنت تقرأ بالكرمانجية ؟” أجبتهُ بضيق: “أتكلمها لكنني لا أتقن القراءة بها” فتح عينيه على وسعهما، فقلتُ بصوت عالٍ أفزع الغراب وجعله يطير هاربا: “إنه أمرٌ معقد، يشبه أن تجوبوا الأحياء السكنية بيتاً بيت لإنقاذ سكانها من الهلاك، بينما تحرمون نقل الدماء إلى محتاجيها وتتركونهم للموت!”.

رد علي الرجل الأول بنفاذ صبر: “الموت نهاية المخلوقات جميعاً، المهم أن يذهب المرء إلى خالقه وهو خالٍ من الخطايا، بعد أن عرف الطريق الصحيحة”.

“أنظر” أشرتُ إلى الممر الذي بدأ بالتشكل من عتبة الباب بعد جرفي لقليل من الثلج: “هذا طريقي الخاص الذي سيؤدي إلى الشارع، الخلاص، لقد وجدته بنفسي مستخدماً مجرفتي، أي معرفتي، وكذلك يفعل الآخرون، والكل في النهاية سيصلون إلى ذات الهدف، بطرق قصيرة أو طويلة”.

ركل الأول برجله الثلج أمامه وصاح: “وسيضل كثيرون ولن يصلوا مطلقاً، لأنهم يعتمدون على معرفة خاطئة”، لسبب لعين ما، بقيتُ هادئا طوال الوقت، على الرغم من أنهما كسرا قاعدة عدم المجادلة، ربما لأنهما لم يقرعا الجرس لذا فعقلي الباطن لم يتعامل معهما كمتجاوزين أو لأنني كنتُ مندمجاً في لعبة جر الحبل الجارية.

“لو أنكم يا رجال الدين بمختلف مسمياتكم ومذاهبكم، تركتم الناس بحالهم، لتركوا هم من تلقاء أنفسهم الأشياء القليلة التي تفرقهم، وتمسكوا بملايين المشتركات الأخرى التي تجمعهم، وأوجدوا مساحات يعيشون فيها بسلام بعيداً عن الحروب والصراعات الكاذبة التي تشعلونها باسم الرب”.

تأتأ الرجل الثاني مدافعاً: “نحن لا نتدخل بالسياسة” واحتاج إلى بعض الوقت ليكمل وقبضتاه مشدودتان مثل تلميذ يؤدي نشيداً في الصف: “ولا نبحث عن المناصب وغايتنا دوما السلام”، اقترب الأول ماداً لي الكتيبات: أخذتها منه دونما اهتمام، فقط لكي أسرع بإنهاء المقابلة وإكمال فتح ممر خلاصي نحو الشارع.

جزئي الشرير لم يفوت الأمر، وجعلني أهتف خلف حبتي البطاطس المبتعدتين وخلفهما آثار خطواتهما العميقة في الثلج: “أطمئنا لست من أولئك السخفاء الذين يحرقون الكتب المقدسة في الشوارع!” ثم تفوهت بتلك العبارة التي لا تصدر إلا عن صبي لا يعرف شيئاً عن الأدب: “لن أفتح الباب بعد الآن لأي رجل يرتدي السواد ويحمل حقيبة فيها كتيبات وجهاز آيفون!”.

هل يحتاج الأمر إلى توضيح أكثر، لقد أخبرتهما أنني لا أريد جماعة شهود يهوه أمام باب بيتي بعد الآن؟، لكن تأكدوا بأنهم على نياتهم، مثل باقي أتباع الجماعات الدينية السماوية والأرضية الأخرى، أو كما نسميهم في العراق( من أهل الله)، لأنهم فسروا اعلاني رفض فتح الباب لأي رجل بثياب سوداء، على أنني من الذين لا يجدون طريق الهداية والخلاص إلا بمساعدة من امرأة.

ولا شك أن دوام جماعة شهود يهوه، اليومي يبدأ في الساعة العاشرة صباحاً، لأن جرس الباب قُرع بالضبط في هذا التوقيت صباح أول يوم جمعة من شباط في العام التالي. وبعد ثلاثين ثانية قرع مرة أخرى، كانتا سيدتان مسنتان متأنقتان مثل اللواتي تجدهن في الصفوف الأولى في حفلات الأوبرا. الأولى ذات الشعر الفضي والعينين الزرقاوين كانت تهم بقرع الجرس للمرة الثالثة عندما فتحت الباب متمتماً بالشتائم، تراجعت خطوتين لتنضم إلى الثانية ذات القبعة المطرزة بالزهور. القتا سوية التحية، ودخلت الأولى في الموضوع مباشرة بدون أي مقدمات: “هل تعرف الأنجيل!”، وناولتني الثانية مجموعة كتيبات وعيناها ترمشان كأنها تتعرض لصعقة كهربائية.

“لماذا ترهقون أنفسكم معي؟” سألتُ بضيق وأنا أخذ الكتيبات، لم انتظر إجابة من السيدتين اللتين أخذتا وضعية الاستعداد للدخول في محاورة “أنا مؤمن بالله، ربما ليس على طريقتكم، ولكن في الأقل أعرف بأنه موجود، وهذا يعني بأن وضعي الإيماني الدنيوي لا يستدعي تسخير جهودكم وكوادركم البشرية، هنالك أناس غيري يعبدون حيوانات وحجارة أو لا يؤمنون بأي شيء تماماً..” كنت أشير بيدي من فوق رأسيهما فالتفتتا ظنا منهما أن من أقصدهم محتشدون في مكان ما خلفهما.

سألتني الأولى كأنها روبوت: “بأي لغة يمكنك القراءة؟” وعندما استغرق صمتي بضعة ثوانٍ، عادت لتسأل: “هل بوسعك القراءة؟” جزئي الشرير تولى الإجابة فوراً “كلا لا أعرف” ثم فعلت الشيء الذي توجب علي القيام به في أول مرة قرع فيها جرس بيتي وأقلقت راحتي، ففي الوقت الذي كانت فيه المرأة الثانية منشغلة بالبحث عن مقاطع الفيديو في هاتف جوال من نوع آيفون، قمتُ بانسحاب تكتيكي إلى الداخل وصفقتُ الباب بقوة. بقينا نحن الثلاثة لما يقربُ من دقيقة واقعين تحت تأثير تصرفي، فلا شك أنهما كانتا مذهولتين من فشلهما الذريع في إرشادي نحو المسار الذي يحدد جماعتهما شروط الدخول إليه والوجهة التي يفضي إليها، وأنا في الداخل منتشياً بنصر معنوي حققته على امرأتين! وعلى جماعة مختصة بإزعاج الآخرين من خلالهما، لكنها كانت مجرد واقعة صغيرة في حربٍ يبدو أنها اتخذت ضدي وربما لأجلي، إذ عادوا لقرع جرس بابي في الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة التالي، ثلاث مرات متتالية، بين الواحدة والأخرى ثلاثون ثانية!.

زر الذهاب إلى الأعلى