أدب

ريح لن تهدأ

قصة قصيرة: ناظم علاوي

            أفكاره المنغرسة بالإحباط والمشبعة بالحرمان توهّجت مثل قداحة، توهّجت

وانطفأت، لتغادره روحه بعد أنْ فقد اليقين في هوس الحرب، وضياع نواميس تذوق

جمال الحياة، أقصد هكذا تبعثر أصابعها سنوات عمره الجميل وهي تُقرر المغادرة

من حياته وقلبه، لتزيد إحساسه بالوجع، وأن أحلامه التي أنهكتها براهين الوعي

والحقيقة محضُ خيال: (إنها خواء تلك الحقيقة التي تولد من رحم الجوع والحرمان…)،

هذا ما كان يرددهُ لها مرارا وبكل ما يمتلك من تاريخ وجبروت في محاولة البحث

عن لحظة يحتفل بنشوة الحب معها، وهي المتلفعة بالزيف، لكنها قررّت أن يكون

 رقما آخر يضاف إلى تاريخ أرقام عشاقها المهووسين بها، فقررت المغادرة…!

      لم يمل أبداً من ملاحقتها علّها تتناسى هذا الزيف الذي أطَّرت به حياتها، وتعود

 مثل ملكة إلى عرشها الذاوي في قلبه، أبداً لم ولن تفعل،! لتصفعه كلماتها الحادة:

 (أنتَ غير مقبول لديَّ).                                                                

     الهروب من بلدته هو أول ما خطر على باله في محاولة لنسيانها، فالمسافة

 بينهما قصة يترنم بها قلبه فقط، نعم فقط بعد أن عزفتها أنامل روحه من ضياء

 الفجر النقي، ورددها المدى عبر حقول الياسمين في كيانه الذي كبر لأجلها،

 ومارس طقوسه في معبد الحقيقة والحب، فعانقت أحزانه تلك اللغة التي أسرج

 خَيولَها رفضُها له.

ماتت مدينته وهجرته طرقاتها وساعاتها وأيامها، فقرر المغادرة بعد أن

 صفعته الوجوه المزدحمة بابتساماتها المستهزئة، وهو ينفض تصوراته وهمومه

 عن يقين مبهم في طرقات لا تعرف سوى رائحة الزيف أو هكذا تصور وهو

 يتعلق بأول قطار ذاهب إلى مدينة بعيدة، فمنذ أن ابتعدت عنه، وهجرته،

 وشبح الموت مثل عجلة تدهس روحه؛ لهذا هرب منها يخدشه شعور بالتفاهة،

 فانسل كما دخان سيجارة يرتفع في الفضاء، هرب منها ومن غنجها ودلالها

وعبثها المهووس، ومن كلماتها الجارحة التي تعصر قلبه، وتقطّعهُ كما الخشب

 أو تفرمه لتجعله كومة رماد، مرات عديدة كان يطارد جموح أحلامه في محاولة

 الولوج إلى كُنه أحاسيسه المستعصية والمبهمة، لكن من دون جدوى! (أنا الذي

 تراكمت وتزاحمت في قرارة نفسي تلك التخيلات حول حب صادق وطاهر)،

ودائما ما كان ينظر إليها من هذه الزاوية الحادة في وعيه، ذاك الوعي

 العارف والمتعطش لحبها، إنها أنثى تغلبت على هذا القلب الصغير، فلم

يغضب لحظة من أفعالها وتصرفاتها وأقوالها – لكي تشبع غرورها النزق-

 وهي ترددّ أمامه دائما: (أنا يحوم حولي الكثير من العشاق والمعجبين، فلا

أدري لماذا تضيع وقتك معي؟ أنا زهرة اللقلق لا يمكن أن أكون لواحد فقط،

 إنني مُلك الجميع! فلا تعود لتردد بعدها كما المظلوم والمقهور أن هواي مزقك!

وكأنكَ تُسعَدُ بآلامك وانتهائك إلى لا شيء!).                                        

       هنا استأصل من جسده البريء والطاهر حزنه إليها ومنها، ليفرش لها

مساحة بحجم الكون، حيث التوهج الأبدي هو شعار الحب على رصيف الحياة؛

رصيف تضيع فيه الحروف ومزامير العشق وترانيم الفصول المقتولة في زمان

لا يصلح للنقاء (يا مراكب الحروف جرجر صوت النبضات من دموع العاشقين بهدوء

 مقيت، إنه الضياع في صحراء الجفاف، كما الغريق الذي يركل البحر ويغطس في

عتمة ليس فيها هياج، بل سكون بارد، إذن فالنسمة الجنون أو هوس المجذوب بعشق

الهي!).

       هرب من هذه المرأة، أم هرب من نفسه؟ هذه النفس الهادئة والمنضبطة التي

 لم تعرف يوما الزيف، ألأنه تَحسَّس مكامن ضعف روحه وصدقه في زمن لا يعترف

 بنواميس الفروسية؟ فهل يفرح كما مضى من تمزقه وهروبه وتبعثره إلى لا شيء؟

 (إنه يحبها، ويجرحه الشوق إليها، وتربكه نظراتها التي تسبح بعطرها!).                     

       ركض مسرعا من أمامها، يسابق زمانه مبتعدا عن أفلاكها، وعن صور

 المكان الذي جمعهما معا، ومن تلك الذكريات، فكل ما حوله أصبح مزيفا وهشا

لا يطاق! فها هو يجوبُ شوارعا ويلتحف سماء ويفترش أرصفة فقط، لكي يتناسى

 أن كل ما يملكه في حياته هو لا شيء! وكومة جروح تنزّ مرارة أحزان من لحم

عمر تبعثرت أوراقه لتستقر في فؤاده! والقطار يعدو سريعا به يطوي خطوط صفحات

 آلامه، وهو واقف قرب النافذة لينفلتَ منهُ دفء نظراته مودعًا مدينته وذكرياته وأحلامه

 وتلك الطفولة الغضة المعبقة بشذا ورود حديقة الشهداء وسط البلد، (فهل حقا سأغادر

 بيتي ومدينتي؟ ومتى سأستنشق عبير بيبوتاتها وشقائقها الحمراء مرة أخرى؟ ومتى

ستزغرد أنفاسي مع حفيف أشجار التوت السحرية قرب قلعة باشطابيا؟ ومن سيداعب

 أجنحة فراشاتها الملونة قرب الجسر العتيق؟ ومن سيطعم نوارسها وقدماه تلعبان في

 شطآن نهرها الممتد كشريان وهو يمنح الحياة لمدينتها وناسها؟) وأنا أغادرها من دون

 رجعة! فربما أكون مجنونا أو هلاميا في قراري، لكنها الحقيقة!     

        تحرك القطار وعلا صوته يخدش الأذان، فدارت مدوراته اللعينة

وصوت صرير احتكاكها فوق خطوط السكة الحديدية تطحن برأسه ما تبقى من

 أماني الاستقرار أو العودة، غادر مسرعا إلى بلاد الثلوج التي قالوا عنها: (إنها

ستطفئ لهيبك وتجمد احتراقات حبك لها وهيامك بها، علّك تنساها أو تعيد ترتيب

 وريقات روحك) – يا من ضيعتِ الآلآمُ عمره – بقيّ مكانه واقفا لا يعلم كم

الوقت مضى وروحه مثل طائرة ورقية مرمية بين السماء والأرض متقرفصة على

بعضها، مهملة ومنسية!.

       أعوام مضت في غربته وحيدا مشردا مسكونا بالخوف واليأس، تضايقه أحلام

 عمره الذي انفرط كالعقد من بين أصابعه، فأكلت تلك الغربة التي فرضها على

نفسه حتى روحه، كل تلك السنوات لم يعرف الاستقرار والأمان؛ لذا كان يتنقل من

قطار لآخر ليقلّه سريعا إلى حيث لا مكان يأويه، ولا أحد يعرفه؛ أقصد هروبه منها

(فكيف أملك ليلي، وأنا قد أضعت نهاري!).

سأم من مرارة الوحدة والغربة التي يعيشها بلا هدف، فهل ثمّة عودة تلوح في

 أفق الروح، والشرود مثل مكحلة أطرت جفون عينيه بالألم والحنين وتشبعت

 بها عروق قلبه، فأصبحت تلك العيون التي غابت عنها معالم مدينته وجسرها

العتيق ومئذنتها الحدباء تألف بلاد الضباب اللعينة وبنايتها القديمة وثلوجها التي

 تعتمر قمم جبالها على مدار السنة، لماذا لم تنسهِ شيئا كما قيل له عند

هروبه من مدينته؟ أو تبعد عن مخيلته تلك الكلمات التي نخرت عقله وأكلت

جسده؟ (ليس بمقدوري أن أبني لها أحلامها وآمالها!)، ما زالت هذه

الكلمات تهرس وجدانه كما المطحنة وتلحّ عليه وتنخس ذاكرته، لم تستطع كما

 قالوا هذه البلاد أن تنسينه عشقها، أو ترمّم أجزائه المحطمة.

        وبعد كل هذه الأعوام الملطخة بالأخطاء والقلق بدأ يضجر من يومه وحياته

 وصوت والده – رحمه الله – مثل ناقوس يرنّ في أُذنيه: (الحياة مثل درب معبد طويل

 وشائك، يمر وسط حديقة غناء فإن لم تأخذ جزءًا من أزهارها، أو تتعطر بأريجها،

واكتفيت بمرورك فقط، ستكون في النهاية جسدًا بلا روح، وستخرج خاسرا لا تملك سوى

 ذكريات ناقصة ومشوهة عن ألوانها وعطرها).  

       هذه المفردات المعلقة على جدران عقله ما زالت تفور وتغلي داخله لتحيله

إلى جَدثٍ متيبس لجسد متعفن يعاني الاحتضار نحو هاوية لم تتضح بعدَ كلِّ تلك

 السنين نهايتُها، وأنه مثل عود ثقاب توهج لحظة ثم انطفأ! فكيف ستلامس أصابع روحه

 الصدق بعد كل تلك الفوضى والإهمال اللذينِ سكنتهما نفسه، والزيف يغلف حتى الحقيقة؟                 

      وخزته شوكة الحنين للأهل والأصدقاء، واستنفرت رقود الوجع المرّ للنهوض والتقدم

 بخطوة لإنهاء تأزمه وهروبه، ففي هذه البلاد الغريب كل شيء فيها عنه، وعند هذه

اللحظة بالذات لحّت عليه ذكرياته مثل ضياء برق في سماء مخيلته، فقرّر العودة، لكن

 كيف يعود إلى محلَّته وهو الذي طوى في سرداب قلبه المظلم تلك المشاهد التي قتلته

من دون إراقة قطرة دم منه؟ وهو يشاهد زوجها يحمل لها الهدايا والحلوى، ويمنحها سعادته

 دفئا يذيب ثلوج شمال وطنه – وتجمد لي روحي – لتلد له أطفالا يملؤون دارهما ضجيجا

وفرحا يمزق عقلي قبل قلبي، وهو مهمل لا أحد يمنحه حتى ابتسامة سوى زمان انتزع حقارة

هذا المكان ليرميه بها فتستقر في روحه قبل رأسه! لا لن يعود؟ فكل ما يملكه هناك

هو لا شيء، وهنا يملك هواءً، وسماءً، وأرصفة ألفته وألفها، يعيش معها وتعيش معه،

 ولأنها تحمل نفس ملامحه وقساوة وجهه (أيكون هذا جنونا؟ لكن ماذا أفعل؟ وأنا هنا منذ

عشرين عاما لم يفكر أحد بالسؤال عني، فلا أدري من ألوم؟ نفسي أم حظي العاثر، وكأنني

 حبة فالول انتزعت ورموها بعيدا، ثم نسوها).

       قبل ساعات وصلته رسالة من الأهل، فاقتادته أسيرا نحو عوالم أوصدَ منذ زمان

 الباب دونها، ومسح عذرية حبه الصادق من ماضيه وحاضره وربما من مستقبله، وغلّف

 أفراحه كومة ثم ألقاها على رصيف لا يمر به أحد، رصيف بهتت ألوانه ومباهجه، حمل

 الرسالة بارتباك تتصارع داخله مشاعر الفرح والحزن، فأعادت فيه انتباهة عقله المعتمة،

 وكأن خيول الحنين أسرجتها انثيالات الشوق، فما الذي حصل ليتذكروا دمية رموها؟

 أهو الحنين؟ أم الاشتياق؟ (والدتي تذرف دموعها، وكأنني أتحسس رطوبتها على الورقة،

أخواتي سيأكلهن الجوع، فالحصار ظالم هنا، وليس بمقدور أحد الحصول على ثمن وجبه

 طعام، – هكذا سطرت أحرف الرسالة- فإن لم ترجع فإنك ستفقدهن وإلى الأبد!).

       بكى بحرقة، نفسه وأهله، فما زالت الأحزان تلاحقه، والهموم زخارف أطرت روحه

 سار كئيبا ينوء ظهره بما لا يستطيع حمله من مسؤولية ألقتها أمه عليه بعد كل هذه

 الأعوام، وهو المنسلخ والهارب حتى من نفسه ومن رائحة ماضيه وثرثراتكم، فكيف

 يملك أن يحافظ عليهن وقد ضيع نفسه؟ وكيف يستطيع أن يمنح شيئا لا يملكه؟

      مزق الرسالة ورماها عاليا، ثم بكى بحرقة، مودَّعا رصيفه الذي كان ملاذه

وسكنه لأيام وليال ذاق معه طعم البرد والحر وحرقة الجوع والتعب والخوف، فاستلَّ جسده

المنهك منه، ركض إلى أقرب محطة وهو يلعن حظه، ليستقل قطارا، كما تعود في

 غربته الانتقال بين القطارات والمدن، ليأخذه بعيدا حيث لا وجهة له، ولا مكان محدد،

 سوى الهروب وعدم الاستقرار، علّ هروبه يعيد ترتيب أشيائه.

      تحرك القطار سريعا يصفر كما صدره بحرقة وألم وتخدش الدموع خديه فيما كانت

عيناه تجوسان من خلال دمعهما هذه القصاصات التي ارتفعت عاليا تتراقص باهتزازات

غير منتظمة، تناثرت فحملتها الريح، لا يدري إلى أين؟ لكنه أحسّ بأنه معلق بكل قصاصة

 منها وأن روحه تتقافز لتستقر أو تهدأ، لكنها، أبدا ستظل في حركتها العشوائيه!

انتهى

اقرأ أيضا: زلالُ الذاكرة

Back to top button