أدب

زلالُ الذاكرة

الى مزاحم

                               الى

                                  مزاحم

ناظم علاوي

مسجى بالبياض، وسط غرفته التي لاكت سنواته، وطارت بها أحلامه نحو عوالم أثثها من عشق التاريخ والقريض.. متوسدا صدرَ الفجيعة، أمام دهشة الكتب!

هزني خبر موته المفاجئ، لا أدري كيف وصلتُ إلى بيته، أقف عند الباب، وحدي كذّبتُ الخبر! لا أريد أن أصدق أحدا من الناعقين. الغرفة يسودها صمت مقيت، تكسرها تنهدات مختنقة من بعض الرجال الواقفين، أعينهم المغرورقة بالدموع تتجه نحوي، تضعني في المركز، وجوههم المكفهرة الحزينة تسلبني وقاري واتزاني. عيناي مصوبتان نحو جسده الممدد فوق “السدية” من دون حراك! هواء الغرفة يخنقني، يصفعني. ترانيم أشعاره مازالت ترن في أذنيَّ، وهدوء صوته البهي موسيقى فرح، ما الذي حصل؟ ما زلت عند الباب، لم أستطع نقل قدميّ الثقيلتين، يحتضنني “عدي” أخي الصغير، يبكي بحرقة، يأخذني من يدي أجرجر خلفي هموما تنوء بحمل صباحي الثقيل، المسافة ما بين المسجى والباب عمرٌ كاملٌ. في السابق أنت من كان يستقبلني وتدخلني إلى مختلاك في غرفة مكتبتك كما يحلو لك أن تسميها، أصافحك وعيناي لا تستقران، تتفحصان كما المهووس عناوين الكتب المُتَّكئة على بعضها البعض في خزانة مكتبتك، تراقب هوسي المجنون بالكتب، تقول وابتسامة تعلو وجهك الوضاء:

  • أعد الكتب التي أخذتها.

أتملص من الإجابة، لأردَّ بحب:

  • عندي أو عندك لا فرق!

أخطو نحوه، وأرجو في أعماقي أن تكون إحدى مزحه، لتنهض بعدها وتجلو عن صدري هذا الهم، أقترب غير مصدق الخبر.. أقف قرب الجسد، أتهاوى كما صخرة سقطت من علوٍ، أجثو، لماذا لا تتحرك!؟ أتوسل إليك أن تنهض وتُكذب كل الأفواه، لكن لم تفعل؛ ولن تفعل…

يُخرِجُ عمي كل من في الغرفة، نبقى أنا وأنت كما كنا في السابق، الآن هيهات؛ أنت ممدد قبالتي وأنا جاثٍ على الأرض، كتبك على الرفوف لا تلاحقها عيناي، لماذا لا أبكي! ما زلت أكذب الخبر. أمدُّ يدي لأزيح الكفن عن وجهك، وفي داخلي رجاء أن أشاهد ابتسامة تعلو محياك. بسرعة أميط الغطاء، لتصفعني قسمات وجهك الباردة وإغماضة عينيك المريبة! أين نضارتك؟ أين ذاك البريق؟ تصدمني علامات الموت! لماذا لا أبكي!؟ صدمة الخبر جففّتْ دموعي، لم أعهدك تخلف موعدا تقطعه لأحد، وكأني ما زلتُ أسمع صوتك الرخيم يملأ المكان! سامحك الله. لم يزل في الوقت متسع! لماذا تعجلت الرحيل؟

***

فوضى خيالي المشحون بالحزن، أبكاني كطفل سلبت منه لعبته الأثيرة. وأنا جالس عند رأسه أحصي ساعاتي وأيامي بهدوء لا يفهمه أو يستوعبه أحد غيرنا. 

الغرفة يملؤها الأسى، لا شيء غير تأوهاتي تفض بكارة السكون. مازلتُ أكذب الخبر، عينايّ تهربان من مستطيلك الأبيض، تجولان أرجاء الغرفة بعيدا عنك، تقلبان الصور المعلقة على الحائط بفوضى حواسي، أحاول المرور بعناوين الكتب في مكتبته التي طالما كنا نرتبها معا. ستبقى الكتب كما لمستها آخر مرة، ولن أدع أحدًا يعبث بها.

تبكي أمي وراء الباب تلجم جماح عبراتي وتعيدني إلى فجاءَةِ واقعي، أصرخ.. أُسقطُ رأسي عليه، أزفر بصوت بركاني يمزق صدري: لاااااااااااااا وأبكي نفسي؛ أبكي وحدتي حتى يضيع صوتي. يضمني عمي بين ذراعيه وهو يقول:

  • وحدِّ الله.. ادعُ له بالرحمة!

جسدي يهتز كمن صعقه تيار كهربائي، يكابر عمي ويناولني المصحف بيد مرتعشة، وبصوت خفيض يقول:

– اقرأ وادعُ أن يتقبله الله بقبول حسن.

انسكبت كلمات عمي مثل ماء بارد. فتحت المصحف على سورة “يس”، وشرعت بالقراءة… ثم تسللت بخيالي إلى خارج المكان والزمان. تعتدل أمامي، تصفف خصلات شَعْرِكَ بابتسامة ودودة تقول: لماذا تفترش الأرض؟

ننهض معًا، يجلس على كرسي مكتبه وأنا أجلس كالعادة على الكرسي المواجه له. تهرول حروفي مستعجلة تملؤها البهجة والسعادة، بسرعة ومثل طفل أستيقظ صباح العيد أرتدي ثيابي الجديدة، نخرج معًا إلى اللّهو واللعب، أحاول أن أقول:

  • لقد كذبوا عليّ يقولون أنك…

يسكتني واضعا إصبعه على فمي بابتسامته الخجولة، يهدئني: لا عليك أنا أمامك وكلهم كذابون!

***

ينحرف ببصره صوب المكتبة، نظراته تتفحصان رفوفها، أجاريه في ذلك. أمُدّ يدي إلى ألبُوم الصور على المنضدة، أفتح الغلاف، صورة بالأسود والأبيض تجمعه مع بِكرُ أبي؛ أخينا “طلال” وهو يعتلي كتفي والدنا وأنتَ جالس بحضنه وعمرك هنا لا يتجاوز العامين، يأخذنا أبي -رحمه الله- إلى السوق أو مقهى “أبو داود” في رأس محلتنا، يشتري لنا السمسمية من “العم إسماعيل”، صاحب العربة الخشبية المؤطرة من ثلاث جهات بنوافذ زجاجية ملونة، والمحمولة على عجلات تقزمها، كنا نضحك من ربكة سيرها، كل صباح نحمل مصروفنا في أكفنا؛ وكأن المصروف للعم إسماعيل دائما، وما إن نسمع صوته وطرقات الإسطام فوق إحدى الصواني حتى نطلق سيقاننا للريح، يا ترى مَنْ مِن بيننا سيفوز بأول قطعة سمسمية؟.      

أقلب صفحات الألبوم، أمامي صورة ملونة لمجموعة أطفال بملابس جديدة، كنتُ أنا ثاني الواقفين في يمين الصورة تحتضنني يدك بقوة وكأنك تخشى عليّ من الضياع، ومذيلة بخط بهتت ألوانه مثل وشم قديم في عيد الأضحى، فنحن لا نأخذ الصور إلا في الأعياد والمناسبات حين نجمع ثمنها، قلت له:

  • عمري هنا قارب سن دخولي المدرسة.

وراح عقلي يتخيل صوته.. هذه “تلة ريما” فسحة الأرض الفارغة خلف ملعب نادي الفتوة الرياضي في منطقة باب الجديد، البعيدة بعض الشيء عن عيون بيوتاتنا وضجيج أطفالها ونسائها. تُنصب أيام الأعياد المراجيح الحديدية ودواليب الهواء المصنوعة من الخشب وباقي الألعاب “وبسطات” بيع الهدايا والعربات التي تجرها الخيول، مرتع صبانا ولَهْوِنا، نقضي يوم العيد، نلعب ونصرف نقودنا على كافة الألعاب، ونأكل “العَنْبَة والصمون” أكلة العيد الخاصة. شعرت بالغبطة، فارتسمت ابتسامة خجلة على شفتيّ وأنت تحذرني من أن أسكب العَنْبَة على ملابسي، هههههه.. دائما تأخذني معك وأنت تمسك بيدي، فيضيع كفي الصغير داخل يدك الكبيرة.. مرات تحملني مثل ورقة تقذفني عاليا ثم تمسكني، وأبي ينهرك عن هذا الفعل، يخشى أن أنزلق من بين يديك فأسقط، تهمس في أذني: آخر يوم في عمري إن حدث ذلك.

أقلب الألبوم، تدغدغني صورٌ رَكضَت ألوانها؛ صورة لك على منصة تقرأ قصيدة وأنت في ريعان شبابك، كنت تُنفق كل نقودك على شراء الكتب! أيام العيد كنا نلبس ثيابا جديدة، ونستطيع أن نرى انعكاس صورنا عليها.

– أخي لا أملك نقودا كافية لشراء ديوان السياب، ما العمل؟ ببراءة طفولية أخرج مصروفي اليومي وأقدمه لك فرحا قائلا:

– خذ اشترِ الكتاب.. تحتضنني بحب..

– لا تكفي نقودك، لكن لديّ فكرة..

نسير فوق الجسر العتيق، تحملني وتجلسني على السياج، جريان الماء يشدُّ عيوننا، نسبح في البعيد وأنت تهمس في أذني:

– اقترب العيد وسيعطينا أبي ثمن شراء الملابس والأحذية لا تخبر أحدا، اتفقنا؟ فطنتُ إلى ما سيفعل، خشيت عليه غضب أبي. حلّ العيد علينا كما قبلة مشتهاة من حبيبة كانت بعيدة، لعب وفرح وسعادة ملأت أيامنا حتى فضحتنا لعبتك، لم تُجد حيلة تلميع حذائك القديم، استطاع والدنا تمييزه من بين الأحذية الجديدة فصرخ:

  – حذاء من هذا؟

  – إنه لي، أجبتَ.

  – اشتريتَ كتبا بثمن شراء حذاء جديد! تقادحت عيناه غضبا، وصعد إلى غرفتك لإحراق الكتب، ولإنقاذها أسرعتَ إلى المطبخ، وأخذتَ سكينا وضعتها على رقبتك وأنا أبكي وأنت تصرخ بهستيريا قائلا:

– سأقتل نفسي إن أحرقتها.. وأمي تتوسل إليه أن يهدأ، هياج وصراخ ملأ البيت كله، وإخوتنا الصغار يبكون حتى أذعن والدنا لتوسلات أمي، قذف القداحة، وخرج من البيت موجها كلامه لأمنا:

   – ستتلف هذه الكتب عقل ابنك.

***

غرفة يسكنها الحزن، وعيون مصوبة قبالة المسجى، مثل مسافر عاد توا من مغامراته وبطولاته، عاد الآن من أزمنة سطرها تاريخا وأحداثا لم تكتمل أو ربما اكتملت، من محاورات لقادة ومفكرين وشعراء أتعبتهم، أو لنقل أتعبوك، بعد أن سكنوا رأسك كل هذا العمر، كان إيابك من مكان تحبه حدَّ الشغف من مدينة تلمسان ومعناها (منابع الماء) عروس مدائن المغرب الأوسط بموقعها فوق الهضبة الخضراء المواجهة لبلاد الاندلس وكأنها تحن لعناقها، وهوسك بالأندلس والمرابطين، والدولة المرينية التي ضَجَّتْ بها خَلاياكْ والتَقَطَتْ أنفاسها وردا وهوىً سَكَنَكَ منذ أن تخصصت بدراسة التاريخ، رحت تسرد لي قصة رحلتك:

  • حملتُ عمري مع زميلي جعفر إلى بلاد المغرب العربي لإكمال بحثي. هناك رأيتُ بيوت يوسف بن تاشفين ومواقع صراعاتهم وغزواتهم. نسائم الأندلس تفوح من جنبات سواحل مضيق جبل طارق، جلتُ سواقي وطرقات مدنهم ودخلتُ إيوانات كتاتيبهم واستظللتُ بظل قصورهم، سألتُ ابن تاشفين وعبرتُ معه المضيق نحو غرناطة: كيف استطاع عبدالرحمن الداخل الوصول إلى الخلافة؟ أجابتْ غرناطة: من كان حلمه كبيرا كانت همته كبيرة!

طفتُ أزرعُ عشقا للتاريخ والوجد، هنا قصر ولادة بنت المستكفي، تلك الجميلة التي تعطي قبلتها لكل من يشتهيها، ومنعتها عن ابن زيدون. رأيت “إيوان” مجلسها الأدبي، قرب نافورة الماء المزدان جدارها بحجارة الفسيفساء الزرقاء وطيور القمري تغرد فوق الأيكة. وكأني أرى تلك الحرب الضارية والغيرة المحتدمة بين ابن زيدون وابن عبدوس بأشعارهم ورسائلهم اليها، وطوق الحمامة لابن حزم الأندلسي يرفرف فوقهم هدية لها.

رأيت قصر الزهراء العالية أسواره، جنة من جنان وماء على الأرض، شممت عطر وصلابة ابن عُباد وهو يتمشى بمسالكه ويتضوع من أزاهير جنانه، حملتنا خيول العزِّ التي عَفَّرت سهول ووديان قرطبة وإشبيلية، وقضينا صلاة مؤجلة ووصايا ماتت في مساجد وجدران قصر الحمراء، حملتُ ما استطعت من مخطوطات وكتب لإكمال بحثي بعد أن أصابتني جلطة قلبية وكأن قلبي الصغير لم يحتمل ما يختلج من حب وجنون لذلك التاريخ وتلك البلاد.

في البيت كتبنا معا الأطروحة وسطرتَ هوىً لرجال صنعوا تاريخا ما زالت شواخصه بارزة أمام الناس. الآن توقفَ كل هذا واستكان حبيسا داخل جسدك المسجى، وخيم الحزن على المكان، فاعتصرتني مرارة الفراق!

***

عدتُ إلى نفسي وواقعي المرير وعينايّ ترممان أوجاعي وأنا أتفحص المكان، تزعجني ولولات وعويل من في البيت. لماذا لفوك بقماش أبيض!؟ تحرك، اُصرخْ بي! ما زلت ذاك الفتى الغِر الذي يتعلم منك. كنت تركض بي لنلحق حافلة الركاب، كيف تتركني وحدي!؟

نثيث المطر في عصر ذالك اليوم، مثل أغنية لفيروز تنعش الروح.. نعبر مقام السيد الرضواني في منطقة النبي شيت بقبته الخضراء ومنارته المزركشة بأنواع من القماش الأبيض والأخضر، نقترب من شباك المقام ترفعني وتقول:

– شم الرائحة، ووحد الله، وصلِّ على الرسول، وادع.

أمسك بيديَّ قضبان الشباك الحديدي، أرى شموعا موقدة وأخرى مطفأة، نسمة هواء باردة آتية من السرداب المظلم الذي يحوي الضريح تصفع وجهي فتسري قشعريرة في جسدي، تهتز كتفاي، وترتعش يداي، تلفني بذراعيك وتضحك: ما بك؟ هل خفتَ؟ أومئ برأسي المستكين على كتفك بالإيجاب.

– إنه من أولياء الله.

تأخذ قدحا من الماء من الدَّن الفخاريّ الموجود بين باب المزار الموصد دائما والشباك، فتسقيني وأنت تقول:

– اشرب! ستشعر بالطمأنينة.

نبتعد قليلا عن المرقد، تحملني بين ذراعيك وتدور بي ممازحا، وكعادتك حين تريد أن تشعرني بالحب والسعادة، تقذف بجسدي الصغير عاليا في الهواء وتعود لتمسكني قبل أن ألمس الأرض، تقبلني فتزيد أنفاسك طمأنينتي، تسألني:

– ما الذي طلبت من السيد الرضواني؟

 من دون تفكير، تخرج الكلمات من فمي:

– أن يحفظك الله، لأني أحبك.

***

الظلام يهزأ بالأحلام، والبرد لعنة أجساد الفقراء، إنها لغة شفاه جائعة! محلتنا الساكنة على ضفة نهر تجري على شاطئه أقدارنا؛ بيوتاتها مرصوصة بنسق دائري تحيط ضريح السيد الرضواني غافية على كراماته، فحين يولد طفل تأخذه عزيزة داية الحي والتي ولد على يديها أغلب رجالاتها ونسائها، تأخذه بسرعة، حتى قبل تنظيفه من دم الولادة إلى الضريح لتباركه، تنثر من تربة القبر على جبهته وتطوف به حول المقام لينال البركة والعمر الطويل. مات أخونا “سعد” ولم يبلغ الحُلم لأنه لم يوافق على أخذ أختنا الصغرى لحظة ولادتها! هكذا تعزي أمنا سبب موته، لهذا اعتادت أمي تعفير الضريح بالطيب والبخور فجر كل خميس وتدعو الله أن يحفظ أولادها! والآن أنت غادرت ولم تقل لي ماذا أفعل في غيابك؟!

***

هذه المرة ربتَ عمي على كتفي بدلا منك، حملناك على أربع أكتاف، وسرنا بك إلى دارك الجديدة.. شمعة أخرى انطفأت…

زر الذهاب إلى الأعلى