(العتالون)على الحدود بين إيران وإقليم كردستان العراق: مجازفة يومية من أجل لقمة العيش
أنجز هذا التحقيق الإستقصائي بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية ضمن منحة CFI. وتنشر مجلة ضوء التحقيق بالاتفاق مع شبكة نيريج، كما أنه نشر في منصات أخرى كذلك.
صلاح حسن بابان
العتالون، أسم يطلق على مهربي البضائع على الحدود بين إيران وأقليم كردستان العراق،
وهي مهنة لاتقتصر على المواطنين الكرد الايرانيين فهناك في الجانب العراقي عتالون كرد
عراقيون كذلك، يقومون في الغالب بنقل البضائع الى نقاط قريبة من الحدودية الايرانية أو
يجتازونها، ليقوم نظراؤهم الايرانيون بإكمال المهمة وإدخالها إلى الجانب الإيراني.
ويتم التبادل التجاري بين اقليم كردستان وايران من خلال المعابر والمنافذ الرسمية مثل
(باشماخ وبرويز خان) وغيرهما الموجودة في قضاء بينجوين الذي يعدُّ منفذاً ومعبراً
رئيسياً لنقل ودخول البضائع ويحتل موقعاً استراتيجياً لكونه أحد المنافذ الحدودية المهمة
بين الطرفين ويبعد بنحو 100 كيلو مترا عن مدينة السليمانية.
والعديد من البضائع التي يتم نقلها بواسطة العتالين، يدفع مالكوها في الجانب العراقي الرسوم
الخاصة بها الى الكمارك الحدودية، وتمر وفق الاجراءات الرسمية المتبعة عبر المعابر
والمنافذ وبموجب وصولات قبض نظامية، إلا أن ذلك يكون إلى آخر نقطة في الجانب العراقي فقط.
بعدها تنقل إلى الداخل الايراني بعيداً عن منافذ ومعابر بينجوين، أي لاتمر بمعبر او منفذ إيراني
رسمي بسبب الضرائب العالية التي تفرضها، وانما عن طريق التهريب من خلال المناطق
الجبلية الوعرة والوديان في منطقة هورامان، والتي تبعد نحو ساعة واحدة عن بينجوين، التي
تعد المركز الحيوي لعمل العتالين.
مواجهة الموت
في دولة تخضع لعقوبات اقتصادية غربية منذ سنوات، ويُعاني سكانها ظروفاً اقتصادية صعبة،
ومع سياسات حكومية تُهمل المناطق الكردية غربي ايران، يطارد الفقر أو الموت بنيران
حرس الحدود الايراني يومياً مئات العتالين هناك.
ومع هذا يشقون طرقهم وبعضهم يستعين بالبغال والخيول، يسيرون ساعات طوال وأحياناً
لأيام صيفاً وشتاءً، راسمين بخطوط سيرهم مسارات التهريب في رحلات تهب الحياة أو
الموت عبر القمم الصخرية العالية والوديان الوعرة.
حاملين على ظهورهم وأظهر دوابهم ما يستطيعون حمله من بضائع مطلوبة في كلا الجانبين
(مستحضرات تجميل، سجائر، مواد غذائية، مشروبات كحولية، ملابس وأقمشة، ومواد غذائية)
مقابل نحو 20 دولاراً للفرد الواحد في كل رحلة محفوفة بالخطر، وهي بالكاد كافية لتأمين معيشة
عائلاتهم في المدن الكردية الإيرانية الفقيرة بسبب اهمال السلطات، كما يكرر البعض منهم لمعد
التحقيق.
إحدى نقاط العبور المهمة، تتركز في منطقة(هورامان)الحدودية، التي تنقسم الى شطرين أحدها
في كردستان العراق والثاني في كردستان ايران، والتي تحولت الى منطقة نشطة للبضائع المهربة
عبر الحدود بما فيها البنزين الذي يتم نقله للاستفادة من فارق سعر بيعه بين الجانبين، والعتالون هم
من يقومون بتلك المهمة.
بحسب مصادر أمنية تحدث إليها معد التحقيق، فان عمل العتالين على الحدود العراقية الإيرانية
لا يقتصر على نقل بضائع استهلاكية محظورة في ايران أو خاضعة لرسوم عالية فيتم تهريبها،
بل تشمل أيضاً تجارة المواد المخدرة وتهريب الآثار، حيث توجد “مجموعات مافيوية وعصابات
متخصصة في هذه التجارة” وفقاً لتلك المصادر، تقوم بنقل تلك المواد من إيران إلى العراق أو العكس
مستعينة ببعض العتالين.
مصدر أمني طلب عدم الكشف عن أسمه لكونه غير مخول بالتصريح، أكد بأن ذلك يحدث”منذ
عقود طويلة” وأن السلطات الإيرانية تغض الطرف في بعض الفترات”فيجري التهريب تحت
أنظارها دون أن تتحرك إلا في إطار محدود وكتسويات محلية تهدف إلى تخفيف الفقر والاحتقان
الشعبي نتيجة تدهور الاقتصاد وطول أمد الأزمات”.
ويقول أيضاً بأن في فترات أخرى”يكون هنالك تشددُ في ملاحقة المهربين خاصة في اوقات التوتر
بين السكان والسلطات اثر التظاهرات التي تحدث في المدن الإيرانية الحدودية. فيما ظل موقف
السلطات الكردية في اقليم كردستان العراق ومنذ إعلان الأقليم في 1991 ثابتاً بعدم عرقلة تلك
التجارة أو اتخاذ أي اجراء ضد العتالين”.
لكن في 19 آب أغسطس 2024، وقع حادثٌ استثنائيٌ حين اخترقت رصاصة أطلقت من
سلاح أحد عناصر قوات حرس الحدود العراقي، صدر العتال آرام صابر، وهو من سكان
منطقة هورامان العراقية، وأردته قتيلاً على الفور، لتدخل المنطقة برمتها في حالة احتقان
وصف بالشديد، لأن ذلك كان نذيراً بتعاظم الخطر المهدد لحياة العتالين وانتقاله للجانب العراقي
بعد أن كان مقتصرا على عتالي الجانب الايراني.
يقول(ماموستا مليك)وهو أحد أقرباء آرام، إن “الرصاصة اخترقت صدره ما يعني إن العنصر
الأمني أراد قتله” الأمر الذي أثار غضب أهالي الضحية وسكان المنطقة، ما دفعهم للتحرك
ضد مقر قوات حرس الحدود العراقي في منطقة(سیپە)ومحاولة إحراقه، إلا أن شخصيات
عشائرية تدخلت لتهدئة الوضع، بينما ذكرت مصادر كردية أن العنصر الأمني الذي أطلق
النار على آرام صابر تم اعتقاله.
وعلى الرغم من أن الحادثة لم تتكرر مع تدخل السلطات الكردية لتهدئة الأمور ومنع تحولها
الى صراع مسلح، لكن المنطقة شهدت العديد من حالات اطلاق النار على العتالين من
الجانب الايراني وتكررت حوادث اطلاق النار ووقوع إصابات بينهم بنحو كبير، إلى جانب
حالات اعتقال وتوقيف مهربين وضربهم واهانتهم واحتجازهم أو حصرهم أحياناً لعدّة
ساعات في الثلوج خلال فصل الشتاء ما يعني تعمد تهديد حياتهم، كما يقول البعض منهم.
وإزدادت حوادث اطلاق النار والقتل المتعمد، من قبل قوات الأمن الايرانية في أشهر
الصيف المنصرمة، حدث ذلك بنحو شبه يومي، إذ قتل رحيم ابراهيمي(في عقده الرابع)،
بمنطقة (سردشت) الايرانية وألقيت جثته في النهر، وتم العثور عليها من قبل الأهالي بعد أيام،
كما قتل سينا رسولزاده (19سنة) من مدينة (بانه) أثناء نقله بضاعة على ظهره مع مجموعة
أخرى من العتالين، وقتل الشاب علي رسولي، بعد اصابته بجراح على الطريق ولم يستطع
زملاؤه انقاذه.
وكشفت منظمة (هنكاو) المعنية بحقوق الانسان، عن تصاعد في عمليات اطلاق النار على العتالين
خلال العام 2024، لترتفع بذلك أعداد الضحايا، إذ قتل وأصيب العشرات. وبينت بأنها
وثقت تعرض مجموعة من العتالين إلى اطلاق نار مباشر من قبل القوات الايرانية في
21 نيسان 2024 بالقرب من منطقة (بله كى) التابعة لمدينة (بانه) غربي ايران، وقتل في
أثرها شوان أحمد پور (34 سنة) متزوج ولديه طفل وحيد، وتم نقل جثته إلى مستشفى
بمحافظة السليمانية، بينما أصيب في ذات الحادث شخصان بجروح مختلفة.
وكانت منظمات حقوقية كردية ايرانية قد وثقت في آذار/مارس 2024 مقتل عطا حسيني
(32سنة) وهو والد لطفل واحد. ومحمد كه نجه ( 35سنة) الذي تم العثور على جثته بعد
نحو 24 ساعة من مقتله في أحد وديان المناطق الكردية الإيرانية.
وتذكر منظمة(هنكاو)التي توثق عمليات الهجوم والقتل التي يتعرض لها العتالون عبر الحدود،
أن عشرات الاصابات الخطرة سجلت خلال الأشهر المنصرمة وبمختلف الأسلحة النارية
والمقذوفات الهوائية(بنادق الصيد).
وأن من بين المصابين(فردين ويسي) من أهالي مدينة (سنه)الإيرانية، جراحه كانت خطرة
وكادت تفضي به إلى الموت، نتيجة اصابته بمقذوف صيد لتستقر العشرات من الكرات المعدنية
الصغيرة في جسده، أطلقها عليه عناصر من قوات(هه نكى مه رزي)الايرانية في مدينة (بانه)
في ايران.
كما أصيب الشاب رزكار خلكاني، بجروح مختلفة لتعرضه إلى اطلاق نار بالقرب من
مدينة (بانه) عندما كان ينقل مع مجموعة عتالين آخرين سكائر ومواد كمالية صيف 2024،
وتعرض في ذات الفترة الطفل محمد آلي (15 سنة) الى وابل من نيران قوات
(هه نكى مه رزي)في مدينة (سردشت) الإيرانية، “فاخترقت رصاصة كبده وخرجت من ظهره”.
ووفقا لناشطين مدنيين، فإن حوادث قتل العتالين بنيران القوات الايرانية تشهد تزايداً مستمراً،
وتحوّلت إلى ظاهرة خلال السنوات الست الأخيرة، وهم يتوقعون تزايدها نظراً لإستمرار الظروف
الاقتصادية الصعبة في الجانب الإيراني وتحديداً في المدن والبلدات الكردية على الحدود مع العراق.
1838 ضحية خلال 7 سنوات
بحسب إحصائيات حصل عليها معدّ التحقيق من مصدر ايراني مسؤول، فإن 1838 عتالاً
قتلوا أو أصيبوا في المناطق الحدودية الجبلية بين ايران والعراق خلال الفترة الممتدة من النصف
الثاني من العام 2017 ولغاية النصف الأول من العام 2024.
هؤلاء تعرضوا لنيران مباشرة من قوات حرس الحدود الإيراني، فيما لقي بعضهم مصارعهم
نتيجة السقوط من المرتفعات الجبلية أو التعرّض للبرد الشديد حيث تنخفض درجة الحرارة الى
ما دون الصفر طوال أشهر الشتاء والربيع.
وشهدت الأشهر السبعة الأولى من العام 2024، بحسب المصدر الإيراني الذي طلب عدم الكشف
عن أسمه او وظيفته، مقتل 36 عتالاً واصابة 256 آخرين بجروح مختلفة، متوقعاً أن يتضاعف
الرقم نهاية العام الجاري 2024 مع اقتراب فصل الشتاء وتساقط الثلوج حيث تزدهر هذه المهنة
بين أشهر تشرين الثاني نوفمبر وشباط فبراير.
ت | السنة | القتلى | الجرحى | مجموع القتلى والجرحى |
1 | النصف الثاني من عام 2017 | 16 | 31 | 47 |
2 | 2018 | 70 | 158 | 228 |
3 | 2019 | 80 | 183 | 263 |
4 | 2020 | 67 | 163 | 230 |
5 | 2021 | 54 | 167 | 221 |
6 | 2022 | 43 | 215 | 258 |
7 | 2023 | 32 | 267 | 299 |
8 | خلال الأشهر السبعة الأولى من 2024 | 36 | 256 | 292 |
9 | المجموع | 398 | 1440 | 1838 |
ويرتبط اقليم كردستان مع ايران بالعديد من المعابر والمنافذ الحدودية الرسمية وغير الرسمية
(غير معترف بها من قبل الحكومة الاتحادية) تقع أبرزها في مناطق )بينجوين وحلبجة
وبشدر وباشماخ وسرتك وهاوار كون وبه موو( في محافظة السليمانية، وأخرى تقع في منطقة
سوران ضمن محافظة أربيل وأشهرها معبر حاجي عمران.
وتشكل جغرافية تلك المناطق بما تضمه من سلاسل جبلية وعرة وممرات ضيقة تخترق حدود
البلدين، بيئة مناسبة لتهريب البضائع. كما يقول حمه سواره الذي يعمل في هذه المهنة منذ أكثر
من عقدين من الزمن: “الجبال العالية والطرق الملتوية والغابات الكثيفة لا يجيد فك ألغازها
والسيرُ فيها إلاّ أهلها”.
ويرفض سواره، وهو من سكان منطقة (تويله) العراقية المحاذية للحدود الايرانية، ويقود في
الغالب مجموعات من العتالين عبر الحدود، اطلاق تسمية(المهربين) عليهم: “كل شيء ننقله من
اقليم كردستان إلى ايران، يكون بوصولات حكومية رسمية وندفع الرسوم في محافظة حلبجة،
لكن السلطات الايرانية تمنع دخول تلك البضائع رسمياً أو تفرض رسوماً مرتفعة جداً عليها،
فيقوم العتالون بنقلها عبر الحدود إلى الجانب الايراني”.
مهنة متوارثة
في منطقة (تويله )الحدودية، تسكن نحو ألفي عائلة، تعتمد 1700 منها على نقل البضائع عبر
الحدود لتأمين معيشتها، بجسب (سواره) الذي يعيل احداها ويقود العتالين من أبناء منطقته،
إذ ورث مهنته عن أبيه الذي كان يعمل في هذه المهنة منذ سبعينيات القرن المنصرم.
وتعد عملية نقل البضائع أو تهريبها وفق التوصيف الرسمي، مهنة رئيسية في العديد من المدن
والبلدات غربي ايران، وهي تُمارس ضمن مجموعات، وتختلف أعداد العتالين الذين ينقلون
البضائع في كل رحلة، لكن في المتوسط تتراوح كل مجموعة ما بين 7 إلى 20 شخصاً،
وتتجاوز أحياناً الـ 100 شخص، عندما تكون هناك كميات كبيرة من البضائع تبلغ عدة أطنان
والتي تتطلب نقلا سريعاً.
ومن أبرز البضائع التي يتم نقلها من كردستان العراق إلى ايران(السجائر والملابس ومواد التجميل
والمواد الغذائية والأجهزة الكهربائية بما فيها المنزلية الكبيرة وفي بعض الأحيان مشروبات كحولية).
وتتم عملية نقل البضائع من كردستان وتسليمها في الجانب الايراني، عبر ترتيبات مسبقة، إذ يقوم
من يعرف بـ(الدليل)بإجراء إستطلاع دقيق وكشف لكامل منطقة العبور لمعرفة مواقع تواجد
حرس القوات الايرانية ونقاط تحركهم، وبناءً على ذلك يتم تحديد المسار الأفضل لعملية نقل
البضائع، وبما يمنع الوقوع في كمائن الحرس الايراني أو التعرض لإطلاق نار مباشر منهم.
ويقوم العتالون بحمل البضائع على ظهورهم الى جانب استخدام البغال والحمير، ويتم السير
أحياناً لساعات عبر طرق ملتوية ووعرة، وفي مواسم تساقط الثلوج تهبط الحرارة الى ما دون
الصفر المئوي وتصبح الطرق جليدية خطرة، لكن على الرغم من ذلك تجبر الظروف المعيشية
خاصة في ايران مئات العائلات إلى المجازفة بإنخراط أبنائها ولاسيما من هم دون الثامنة
عشرة في هذه المهنة.
ويلف سواره: “قد تجد بينهم أطفالاً لاتتجاوز أعمارهم الاثني عشر عاماً، وكباراً في السن
تجاوزت أعمارهم السبعين، لا يمكنك منعهم حين تعرف أن بيوتهم خاوية من الطعام ولديهم
مرضى أو أطفال أصغر ينتظرون اطعامهم، لذلك تجدهم يجازفون بحياتهم.
في وقت متأخر من مساء آب/ اغسطس 2024، وبعد انتظار دام عدة ساعات، أطلق سواره
إشارة الانطلاق الى مجموعته التي ضمت نحو 60 عتالاً، بعد تحديد مسار حركتهم عقب
معلومات الكشف التي تلقوها.
أكثر من 600 علبة سجائر كبيرة، وصناديق من مستحضرات التجميل، وأكياس ضخمة
مليئة بالملابس النسائية، كانت البضائع التي حملها عناصر المجموعة على ظهورهم قاطعين
نحو ثلاثة كيلومترات صعوداً ونزولا من منحدرات جبلية وبين أشجار الغابات، قبل أن يصلوا
وبعد نحو ساعتين إلى نقطة التسليم، وكانت منطقة فاصلة بين العراق وإيران في منطقة(تويله)،
حيث كانت تنتظر مجموعة أخرى ضمت 27 عتالاً يقودهم دليلهم الايراني لتتولى إكمال مهمة
النقل إلى الجانب الايراني.
سواره عبر عن ارتياحه لأن كل شيء سار بنحو جيد:”لكن هذا لا يحدث في كل مرة، فقد
نتوقف لساعات لحين عبور دوريات ايرانية، وقد يحصل اطلاق نار، أو يسقط أحد العتالين
ما يتطلب اسعافه، وأحياناً نغير الطريق أكثر من مرة” يقول بإنفعال.
تتراوح أجور العتال الواحد عن كل عملية نقل في المتوسط بين (10-20) دولاراً، حسب الكمية
التي يحملونها ونوعيتها، وبحسب تاكيدات سوار فأن هذه هي الأجور المعمول بها، والعتالون
ليس لديهم الخيار سوى القبول بها.
عتال من كرد ايران في الخمسين من عمره، يدعى شوان حمه خالد، قال أثناء مساعدته لزميل
له على حمل صندوق سكائر كبير على ظهره:”مادامت هناك عائلات تنتظرنا لنؤمن طعامها فلن
نتوقف حتى لو أمطر علينا الحرس الرصاص.. في كل مرة نعرف اننا قد نقتل ولا نعود أبداً،
لكننا لا نملك خياراً غير الاستمرار”.
صمت للحظات وأخذ يعد خلالها بيديه سيكارة من تبغ محلي ووضعها بطرف فمه، ثم تابع
:”فقدنا عدداً ممن نعرفهم وسنفقد آخرين، هذه هي الحياة هنا.. قد يبدو ما نفعله مقابل هذا المبلغ
الصغير جنونا، لكنه يضمن معيشة عوائلنا بشرف”.
(تهريب) لا يمكن الدفاع عنه
محامٍ من منطقة هورامان الإيرانية يختص بالدفاع عن العتالين في حال تم توقيفهم، يدعى
صفي الدين ماد، يقول بأن “عمل العتالين في هذا المجال الخطِر دليلٌ على فشل الدولة في
رعاية مواطنيها وتأمين فرص عمل مناسبة لهم”.
ويصف اطلاق النار عليهم أي العتالين بالأمر “المخالف للقانون والأعراف”، ويضيف
“بدلاً من رميهم بالرصاص بشكل مباشر كما تؤكده الحوادث المتكررة، تستطيع أي مفرزة
أمنية أن تعتقل المهربين في حال أرادت ذلك بعد أطلاق رصاص تحذيري، لا أن يطلقوه
عليهم ويردونهم قتلى دون ان يشكلوا أي مصدر خطر أو تهديد”.
ويشير إلى أن التعامل مع عمليات التهريب والمهربين تخضع لقوانين واجراءات محددة،
فالمهرب كما يرى، يفترض أن يعتقل وتصادر بضاعته ومن ثم يسلم إلى القضاء ليتم التعامل
معه وفق القانون وبحسب نوع الجريمة، ومنها ما ينتهي بفرض غرامات مالية، ويستدرك
:”إلا أن ما يحدث على الحدود من قتل وضرب يمثل مخالفة واضحة وصريحة لجميع الأعراف
والقوانين”.
لكن هذا يخالف ما يعتقده عناصر الأمن، إذ قال ضابطٌ إيراني برتبة ملازم من حرس الحدود
لمعد التحقيق بعد أن أكد عليه عدم إيراد أسمه، أن من حقه وزملائه إطلاق النار على العتالين
الذين يصفهم بالمهربين. ويضيف”هناك عصابات للجريمة المنظمة، وهنالك مافيات
الإتجار بالبشر والمخدرات، وهنالك مسلحون من جماعات ارهابية وقد تحصل مواجهات
معهم، لا يمكننا التحقق من هويات من يعبرون الحدود خلسة، لذا تتكرر حالات اطلاق النار
من قبل حرس الحدود تحسباً ومن أجل وقف أية اعمال غير قانونية وضمان أمن الدولة”.
رئيس منظمة الدفاع عن حقوق العمال الأجانب في اقليم كردستان حمه هزار، يتفق على
أن ما يجري في المناطق الحدودية هي”ممارسات غير قانونية” ويوضح:”فهناك تجارة
للمخدرات واتجار بالبشر، الى جانب العتالين الذين لا يملكون خياراً غير مواصلة عملهم الخطير
رغم ان كل أسرة من أبناء البلدات الحدودية ربما لديها فقيد أو معاق نتيجة تلك المهنة،
وبعض المناطق أصبحت بمثابة المقابر للعتالين”.
لكن هزار، ينتقد اعتماد “اطلاق النار على العتالين” كوسيلة لإجبارهم على التخلي عن
مهنتهم، ويشكك بامكانية تحقيق ذلك الهدف: “منذ عقود هذه المهنة قائمة، تغيرت أنظمة
الحكم في البلدين، مات أو أصيب الآلاف أو تعرضوا إلى اعاقات جسيمة ولم تتوقف هذه
المهنة..هي ظاهرة منتشرة في جميع بلدان العالم وليس في العراق وايران حصراً”.
ويؤكد:”يمكن تقليصها بتوفير حياة كريمة لسكان تلك المناطق، وتأمين فرص عمل بديلة لآلاف
العتالين ممن ليست لديهم علاقة بتجارة المخدرات والآثار والأسلحة.. لا أحد يحب أن يخاطر
بحياته ويواجه الموت كل يوم من أجل بضعة دولارات ان لم يكن مضطراً”.
المتحدث باسم هيئة حقوق الانسان في اقليم كردستان سليمان محسن، ينتقد بدوره اطلاق النار
على العتالين الأكراد الايرانيين، ويسمي من يقتل منهم بـالشهيد، كونه “يجازف بحياته من
أجل تأمين لقمة العيش لعائلته”حسبما يعتقد.
ويقول، طالما هم يعدون تلك التجارة غير قانونية، فعليهم “ايجاد بدائل عمل لهم، وأن يتم
مواجهة المخالفين بالاجراءات القانونية وعبر أجهزة الدولة والقضاء وليس بأسلحتهم النارية”.
أما رئيس فرع السليمانية لاتحاد نقابات عمال كردستان، جالات رؤوف، يشير الى عدم قدرة
اتحاده على الدفاع عن العتالين الذي يعملون بطرق غير قانونية عبر الحدود:”لا يمكننا فعل
شيء لهم اذا تعرضوا لأي أذى أو ضرر أثناء عملهم. هم يمارسون مهنتهم بعيداً عن
الجهات النقابية ولايخضعون لإشراف أي اتحاد أو جهة حكومية”.
بيئة نشطة لتجارة المخدرات
وفقًا لمصدر أمني مسؤول وهو ضابط رفيع المستوى في منطقة هورامان العراقية وتحديداً
في منطقة( تويله) تتولى ثلاث قوات ايرانية مهام حراسة الحدود الرابطة بين العراق وايران
وهذه القوات هي (هه نى مه رزي، باسدران، سوبا)، بينما تتولى فقط قوات حرس الحدود
المهام في الجانب العراقي.
على الرغم من ذلك تنشط عمليات التهريب التي يقوم بها العتالون عبر الحدود، والى جانبهم
تنشط مافيات إجرامية، على حد قول المصدر، الذي يقول:”المافيات موجودة في جهة ايران،
تمتهن تجارة المخدرات وتعمل على إدخال أطنان من المخدرات إلى العراق، جزء منها من
خلال العتالين، وهي تمارس أعمالاً أخرى غير قانونية مثل تهريب الآثار، والبشر ونقلهم
عبر الحدود الدولية”.
الاقتصاديون كما المسؤولين الحكوميين، يصنفون أي عمليات تجارية تجري عبر الحدود دون
علم وموافقة السلطات في جانبي الحدود بأنها غير قانونية بضمنها نشاط العتالين، ومهما
كانت مبررات السكان في تلك المناطق للجوئهم الى تلك الوسيلة لكسب القوت.
الخبير الاقتصادي بشتيوان محمد، يعد عمل العتالين بأنه يدخل ضمن عمليات تهريب مُجرمة
قانوناً “كونها تتم بشكل سري بعيداً عن الاجراءات القانونية الرسمية والتي تتضمن دفع الرسوم
والضرائب على البضائع والمواد التي يتم نقلها بين البلدين”، ويضيف مستدركاً:”حتى لو
سددوا الرسوم والضرائب في الجانب العراقي، فهم لايفعلون ذلك في الجانب الإيراني،
وهذا أمر غير مشروع”.
ويرى الخبير الاقتصادي، أن مهنة العتالة قد تؤمن لممارسيها الحد الأدنى من معيشتهم، لكنها
تحقق للمسؤولين القائمين عليها أرباحاً طائلة، ويعني بهم مالكي البضائع، ويبين وجهة نظهر
:”تتجاوز أسعار البضائع المنقولة في وجبة واحدة أحياناً المليون دولار، تدخل دون أن تُدفع
عليها أية رسوم، لتباع بأسعار مضاعفة من قبل تجار آخرين، يمثلون معاً حلقات من المستفيدين”.
ومع تأكيده وجود عوامل سياسية واجتماعية وراء رواج تلك التجارة التي يؤكد عدم مشروعيتها
، إلا أنه يؤكد بان الجانب الحاسم “هو الوضع الاقتصادي في المناطق الكردية في البلدين،
نتيجة تراجع فرص العمل وصعوبة تأمين لقمة العيش”.
وبحسب محمد(40 سنة)، الذي يسكنُ في منطقة هورامان، فإن الطبيعة الجبلية للمناطق
الحدودية التي تسهل على العتالين تهريب بضائعهم عبرها، تُمكن أيضاً مافيا المخدرات من المتاجرة
بها ونقلها وبكميات كبيرة من ايران إلى العراق، حيث يمكنهم الاختفاء بين أشجار الغابات أو
بين الصخور، وفقاً لما يذكر.
ويؤكد تورط مسؤولين أمنيين في تلك المناطق مع المهربين:”يتساهلون معهم في نقل
البضائع من خلال حصولهم على حصص معينة” ثم يتساءل”هل من المعقول أن تستمر هذه التجارة
منذ عقود ما لم يكُ هناك تسهيل لعمليات النقل أو غض الطرف عنها بوجود جهات مسؤولة
مستفيدة منها”.
ويقول أيضاً بأن الفقر المدقع الذي تُعانيه أسر العتالين والأرباح الكبيرة التي يحققها التجار
المهربون ومن ينسقون معهم، أدى الى تضاعف أعداد من ينخرطون في هذه المهنة الخطرة
خلال السنوات الأخيرة. ويشير إلى أن أعدادهم في هورامان ومحيطها بات يتجاوز
الـ1000 شخص، “يعملون في مجموعات صغيرة تضم الواحدة بين 30-70 شخصاً” .
ويضيف بأسف:”لا تمر أيام إلا ونسمع بخبر مقتل أحدهم او إصابته، لقد أصبح أمراً معتاداً”.
- أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية صمن منحة CFI.
أقرأ أيضا: نظام الصرف الصحي في دهوك يلوث المياه الجوفية ويهدد الصحة العامة