نوزت شمدين
وأخيراً عدت للحياة، بعد مئة وخمسين عاماً قضيتها داخل ثلاجة في مخبئ سري تحت دورة المحطة
في الجانب الأيمن لمدينة الموصل، لم أشعر بآلام جسدية ولا حتى بلسعة برودة، وذاكرتي كانت على
ما يرام، بخلاف توقعات البروفيسور الألماني كلاوس سامس، الذي أقنعني بالمغامرة في عام الدشاديش.
الأمر بالنسبة كابتلاع حبة منومة فينطفئ العالم، لأفيق بعدها وكأن شيئاً لم يحدث..
خرجت من بوابة صغيرة، أكتشف أنها تقع ضمن قاعدة تمثال الملا عثمان الموصلي، تمثال برونزي
ضخم، بملامح مبتسمة بارزة، يقبض في يده اليمنى على عصاه، وفي الاخرى على أسطوانة موسيقية،
وكتب بلون ذهبي على لوح في جانب قاعدة التمثال الأيمن( الملا عثمان الموصلي 1854 – 1923 م –
هدية نقابة الفنانين في الموصل 2162م )، نظارتي الخاصة بهذا اليوم، منعت عني خطر أشعة ظهيرة
تموز اللاهبة، ويبدو أنها هي التي جذبت أنظار نحو عشرين سائقاً على خط بغداد، هجموا علي دفعة
واحدة وأنا اعبر الشارع صوب رأس الجادة، وجميعهم يقسمون أنهم يحتاجون فقط الى نفر واحد فقط
للتحرك.
اجتزت صفاً طويلاً من محال بيع المشتقات النفطية، توسطتها دائرة الجوازات والجنسية المزدحمة
بسلسلة طوابير لفت المبنى مثل ضمادات، وقبل عطفة الشارع اكتشفت أن طابور السيارات الممتد من
محطة القطار، كان ينتهي بمحطة الوقود، فشعرت بنوع من الألفة، عززتها طرقات ( التنكجية)،
ومنبهات سيارات الأجرة القادمة من باب الطوب، واختنق بها التقاطع المروري، المنطفئة إشاراته
الضوئية، جذبتي روائح اللحوم الحمر المعروضة بسخاء على واجهات محال متقابلة، سرت بهدوء
السواح، على الجزرة الوسطية، كانت دائرة الأحوال المدنية للجانب الأيمن على حالها، وفي الجهة
المقابلة، كتاب العرائض يمارسون هوايتهم القديمة في اصطياد الحائرين وهم يتصببون عرقاً تموزياً
يغسل الوجوه.
أدهشتني قبة قبر البنت الذهبية بأعمدتها الأربع الفضية، والشاهد المرمري الذي كتب عليه بخط كوفي
بارز( قبر أبن الأثير)- عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي 555-630 هـ، مؤرخ إسلامي كبير،
مؤلفاته ( الكامل في التاريخ – التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، أسد الغابة في معرفة الصحابة،.اللباب
في تهذيب الأنساب) – هدية الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين 2154.
تسرب صوت أذان الظهر القادم من جامع قضيب البان الى مسامات جسدي، حاولت ايجاد منارته
لكن سور ملعب الأدارة المحلية الخاضع للتعمير كان اعلى من فضولي، فواصلت السير متخطياً
جسر نفق البورصة، وهناك شعرت بتعب وعطش شديدين، لم يطفئهما دوش ماء كانت تنهمر
برودته امام محل لبيع المواد الغذائية، ومع كل شفطة ملأت بها فمي، كنت أرى في وجوه العابرين
نظرة عتاب، حتى سمعت إمرأة مسنة وهي تقول عن أحد ما ” عمت عين الزلم اللي ما تصوم ” !!.
ثلاث سيارات أجرة صفر، مع سيارتين خصوصي، امتثلت لسبابتي الباحثة عن واسطة أجوب بها
المدينة ، السائق الأول خطفني بسيارته التويوتا موديل 2145 المسكربة، لكنها كانت ملبية لعائد
مثلي الى الحياة بعد نوم دام قرناً ونصف القرن.
اضطررنا ونحن نشتعل من الحر، للانخراط في زحام استمر عشرين دقيقة أمام مطب وسط الجسر
الخامس، كان السائق ينبش قبور أجداد المحافظ ومدير بلدية الموصل، بسبب سوء الخدمات، بينما أنا
مسترخ أستمع الى برنامج الجسر العتيق عبر إذاعة شباب أف أم، وينقلني صوت المذيعة البلبلي، الى
ذكريات الزمن الجميل.
وعندما تناولت المذيعة مادار في الجلسة الدورية 57 لمجلس محافظة نينوى، قال السائق بغضب وهو
يطلق المنبه بنحو هستيري” بربك هذا حال واحد خريج هندسة، وأعضاء المجلس الأفندية مرتاحين
كدام أجهزة التبريد، ووسياراتهم مليانة بانزين، وما يفكرون بينه “. ثم اخرج رأسه وشتم سائق سيارة
أجرة تقدم عليه بنصف متر، وعاد ليقول : ” لا احد منهم من مدينة الموصل، يفكرون فقط بالقرى
والنواحي التي أتوا منها “. ثم رفع سبابته امام وجهي، وقال بعصبية واللعاب يتطاير من شفتيه”
أقطعها وأرميها في مزبلة، ولا أنتخب أياً من هؤلاء الكلاب “، بعدها تمتم بكلمات وهو يهز رأسه،
لم افهم منها سوى اللهم أني صائم.
مع انحدار المركبة البطيء نحو جسر سنحاريب، بدت قباب جامع الموصل الكبير، كما تركتها
في مطلع القرن الحادي والعشرين، لم يتغير منها شيء باستثناء لافتة كبيرة موضوعة على السور
الخارجي، كتب عليها بخط أسود كبير، بسم الله الرحمن الرحيم” إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ “.
بالقرب من دائرة زراعة نينوى، أطفأ شرطي في مفرزة قطعت الشارع لهفتي لإعادة اكتشاف المدينة،
فبعد ان اطلع على سنوية وإجازة السائق، أدخل الشرطي رأسه عبر نافذة السائق وقال لي بلكنة مائعة:
” أبوية أنت لازم فرنسي، ليش ما تشلع المناظر “، ابتسمت لقلة الأدب المتوقعة، دون ان أرد عليه،
أو أرفع نظارتي، وانا استذكر النصيحة الانكليزية الشهيرة ( لا تجادل شرطياً) فانتفض مثل ثور،
وأخذ ينادي في جهاز لاسلكي بيده، وما هي الا دقائق قليلة حتى تجمع حولي عناصر من مختلف
أجهزة الأمن، سحبوني الى الساحة المقابلة لقاعة أبن الأثير، بعد حملة ركل وصفع وسباب،
وبعد دقائق وصلت مركبات مصفحة سوداء، ترجل منها عناصر ملثمون، ثم اختفت الصورة،
ولم استعد وعيي إلا وأنا استمع الى صوت يطلب مني التوقيع على أفادتي، فتحت عيني بصعوبة،
فوجدت قلماً في يدي، وغاب كل شيئ مجدداً.
علمت بعدها وأنا في قسم الاصلاح رقم اثنين في سجن بادوش، أنني اقضي فترة عقوبة السجن لعشر
سنوات، مداناً بالإرهاب وفقاً للمادة 8 من قانون مكافحة الارهاب لسنة 2124، مع إدانة بتزوير
مستمسكات هوية الأحوال المدنية والجنسية العراقية وبطاقة السكن، وورقة أخرى رفيعة وطويلة
لم يعرفوا عائديتها، فيها اسمي وأسماء أفراد من عائلتي.
قضيت ثلاثة سنوات من الحكم وفي ليلة التاسع من حزيران عام 2164، سمعنا انفجارات عديدة،
وأمتلأت الزنزانات بالدخان والضجيج، وبعد ساعتين دخل علينا مسلحون ملثمون ومتشحون بالسواد،
وطلبوا منا الخروج لانه يوم التحرير.
وعلى طول الطريق الغربي للمدينة، كانت عجلات أمنية مصفحة تحترق على الجانبين، ومركبات
مدنية تضج بها الشوارع الداخلية وهي تزعق بالمنبهات، ومكبرات الصوت بالاغاني الحماسية،
وأناس خارجين من نوافذها محتفلين، بينما المئات من العائلات ينزحون على الأقدام في مختلف
الاتجاهات، كان الحزن والفرح ممزوجين على الوجوه، دون ان يعرف أصحابها على وجه الدقة
ما يجري، كنت قد وصلت للتو الى دورة المحطة، عندما شاهدت شاحنة طويلة تبتعد حاملة الملا
عثمان وهو مستلق على ظهره، كان الباب الصغير أسفل قاعدة تمثال الملا، كما أوصدته، دفعته
بهدوء وعدت الى ثلاجتي، على امل ان تتغير الأمور بعد عمر آخر من الإنجماد.
__________________
* البروفيسور كلاوس سامس، من مدينة هامبورغ الألمانية، قرر عام 2014 تجميد نفسه والنهوض
بعد 150 عاماً، في عملية اطلق عليها( حفظ الحياة ) .
اقرأ أيضا: المشهد الحقيقي للحياة