" بيس Peace "
نوزت شمدين
ما أن عاد الى الموصل بناءً على وعد قطعه لوالده، حتى عانى يونس من دوار الوطن، وتشنجات الحنين
الى الغربة القلبية، وحاول بصبر الموتى، التأقلم مع ورطة وجوده في حدود دولة الخلافة التي أعلنت بعد أيام
قليلة من دخوله المدينة قادماً من أربيل التي هبط إليها من السماء بطائرة جاءت به من لندن.
يونس، قضى نصف عمره في مدارس وجامعات بريطانية أسقطت نصف شعر رأسه، وأخذت من عينيه أربعة
درجات، مع عمليتين جراحيتين واحدة لقلع زائدته الدودية، والأخرى لتخليصه من عذاب الجلوس باطفاء نار
بواسيره. تلقى قبلها بأشهر رسالة سكايبية بالصورة والصوت أظهرت وجه ابيه الباكي معبراً عن خشيته في
أن يزوره ملك الموت قبلان يقابل ابنه الوحيد مرة اخرى، فأقسم يونس وهو يضع يده على نسخة مصغرة من
القرآن بأن يكون في باب لكش حيث مسكن العائلة مع مطلع حزيران، وصادف ان دقت ساعة”بكً بن” في تلك
اللحظات ليقول لأبيه وهو يمسح دمعةً بإبهامه: “وهذي شهادة من بكَ بين”.
حزقه أبوه بضمة شوق لنحو ربع ساعة بالقرب من السيطرة المشتركة في كوكجلي، وهم محاطين بوفد من
المحلة وعدد من الأقارب جذبهم مغناطيس النخوة من محاليل الميدان وباب البيض وخزرج والساعة وسوق
الشعارين وقصر المطران ودجة بركة والفاروق القديم وباب جديد والجوبة.
قيادة عمليات نينوى أساءت فهم التجمع، وظنت مستندةً الى معلومات استخبارية أنها مظاهرة لسحب الثقة
عن رئيس الوزراء نوري المالكي، فأرسلت قوة كبيرة من الشرطة الاتحادية الى المكان، معززة بقوة لمكافحة
الارهاب، قامتا بقمع فرحة أبو يونس، وأدخلتا الجميع في معتقلات لم يخرجوا منها إلا بشلعان القلب بعد أربعة
أيام توقيف.
“يونس” عد الأمر مجرد وجود في زمان ومكان خاطئين، وحاول نسيان بهدلة المعتقل وطبعات بساطيل عناصر
الشرطة الاتحادية المخمورين وألسنتهم الطويلة على ظهره وأسماعه، واشغل نفسه بجولة حنين طافت به
شوارع وأزقة المدينة ومطاعمها ومقاهيها، فيما كان والده يجند نساء المحلة للبحث عن عروس تنقذ نسله
من الانقراض.
وفي الثامن من حزيران وبعد أن افرغ يونس كيساً كاملاً من الخبز أمام نهم سرب نوارس بالقرب من الجسر
العتيق، شدته رائحة السمك المشوي القادمة من مدخل باب السراي، وقفزت الى ذهنه حلاوة شربت زبيب طه،
وحموضة طرشي الصقال، فاتجه مثل نائم يجتاز طابور عربات الخضر والفواكه في باب الجسر، وكان هذا آخر
ما تذكره وهو يتقلب داخل الحقيبة الخلفية لسيارة نوع أويل فكترا أخذته مخطوفاً الى مدينة تلعفر.
وسانده الحظ لأن عناصر داعش نفذوا من هناك فجر اليوم التالي هجوماً على الموصل وضواحيها، فتركه
المسلحون لعدم التفرغ في بيت طيني وهو مقيد اليدين ومعصوب العينين وقلبه يدق مثل طبل، وعثر عليه
رعاة حرروه وأرشدوه إلى الطريق، وبعد مسير طويل، وبالقرب من قرية(ماريا)كانت المئات من مركبات
الدفع الرباعي الحديثة ترفرف خارجة من نوافذها إعلام سود، وتصدح مكبرات الصوت فيها بالأناشيد الدينية،
وبعد انتهاء الاستعراض المتوجه الى الموصل وقفت لتقله سيارة بيك آب موديل 1979 يكاد محركها ينفجر من
الزعيق، ولم يبق من لونها الأبيض سوى بقع متناثرة، كان في حوضها الخلفي مجموعة من الملثمين، صاح به
أحدهم وهو يكاد يطيرمن الفرحة: “تعال والتحق بالثورة الشعبية، كسرنا عين المالكي”.
بعد أيام حصل يونس على نسخته من وثيقة المدينة التي وزعتها دولة العراق والشام الإسلامية، فارضة سلطتها
لا شريك لها، وهكذا ووجدت المدينة نفسها محتلة، وعادت خلال أيام قليلة اكثر من ألف سنة إلى الوراء بسبب
الأوامر الداعشية التي تدخلت في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس، وكانت بانتظار المعترضين أدوات موت
ومعتقلات ومقابر جماعية.
يونس تمرد على عقوبة الإقامة الجبرية التي فرضها عليه أبوه لحمايته من”العجايا”على حد وصفه لعناصر
داعش، وخرج في المحلة مجاهراً برفضه الرجوع الى عصور قديمة، والخضوع لأوامر غرباء عن المدينة.
وقال وسط جمهرة من الشباب المرعوبين، بأن عليهم التكاتف والتآزر لإحلال السلام ثم صرخ بأعلى صوته
نريد الـ” Peace”، نريد الـ” Peace”.
وكانت هذه المفردة مربط الفرس في قضيته التي نظرها الأفغاني قاضي المحكمة الشرعية، فضلاً عن تهمة
وجهت إليه بسب الخليفة بناءً على شهادة مخبر سري حلف على المصحف بأنه سمع يونس يقول أمام
الناس بأن الخليفة”بيس”أي قذر وفقاً للمعنى الشعبي المتداول، وعقوبتها بعد تنازل المسبوب لدواعي الرفق
بالرعية عن حقه الشخصي، ثمانون جلدة. تحمل يونس بصبر المؤمنين في السير المحكية لسعاتها على
ظهره وهو نصف عار في مكان تمثال أبي تمام المقلوع بشارع الكورنيش.
ابوه استعان بمضمد الحي لأبقاه في حالة غيبوبة بأبر منومة صباحية ومسائية لحين الحصول على معلومات
عن منفذ مفتوح يؤدي الى خارج المدينة لتهريب يونس وإنقاذ من ميتة متوقعة بواحدة من عقوبات داعش الانتقامية،
خصوصاً بعد تسرب أخبار الى الأنترنيت تتحدث عن قيادة يونس لخلايا مقاومة لوجود الدولة الإسلامية في
العراق والشام التي تعرف اختصاراً بـ”داعش “.
وكاد قلبه أن يخرج من مكانه عندما وجد في جيب بنطال أبنه الخلفي منشوراً موقعاً باسمه يقول فيه بأن هذه
الدولة عبارة عن مجموعة من قطاع طرق يقتلون ويفجرون ويخطفون ويسرقون ويغنمون باسم الرب، ومقاومته
واجب على كل شخص رجلاً كان أم امرأة، ويجب عدم الاعتداد بعون خارجي، لأنه وإن سيطرد الدواعش،
لكنه لن يمنع عودتهم مجددا، ولهذا لابد من انتفاضة داخلية تنظف أرجاء المدينة وما يحيطها.
الأب تخطى مشاعر أبوته، ودفع دم قلبه من الدولارات لعناصر من داعش بثياب افغانية لخطف أبنه وتهريبه
عبر طريق كركوك وتركه خلف أي نقطة تفتيش تحمل علماً عراقياً.
وبعد أن أقسم العناصر بـ”خوداه” وهم يرفعون سباباتهم الى السماء أنهم نفذوا الأمر بأمانة وشرف عاليين،
أعلن أبو يونس استشهاد أبنه بقصف جوي صفوي استهدف ببراميل متفجرة سجن الأحداث الذي كان ابنه
موقوفاً فيه لإصلاحه، ليمحو بذلك أي أثر لوجوده، إنقاذا لحياته.
وبعد يومين من انتهاء مجلس العزاء، انتفخت عينا أبو يونس دهشة وهو يلتقط صورة أبنه على شاشة قناة
العراقية الفضائية، كان يرتدي ثياب المعتقلين البرتقالية، ويعترف متلعثماً وعيناه تدوران في الاتجاهين
بانتمائه الى الدولة الإسلامية، وتنفيذه لعمليات إرهابية عديدة خلال السنوات الأربع المنصرمة في بغداد
وجرف الصخر وديالى والأنبار وكركوك، وأعلن عن ندمه الشديد لما اقترفته يداه، ودعا الشباب المغرر بهم
أمثاله للرجوع الى الصف الوطني، وترك أحضان الخليفة. ثم قال بعد تردد الـ” بيس”
————–
*بيس- مقال ساخر نشر في في كتاب قادمون يا عتيق الذي صدر لنوزت شمدين في الموصل نهاية 2014،
وهو اول كتاب مقاوم لإحتلال تنظيم داعش للموصل، طبعه الشهيد ذاكر العلي.
اقرأ أيضا: المشهد الحقيقي للحياة