أدب

  بُرْطم

نص: يعرب السالم

***

الإهداء : إليها وإليهم لأنهم مازالوا تحت الأنقاض ….

***

غادرنا دارنا على أمل أن نعود ذات...

***

عُدنا بعد أن كبرنا وأصبحنا أكبر من الزمن قليلا، عدنا بعد أن مُحِيّت ملامحنا تماماً، وأصبحت وجوهنا متشابهة بفعل الخوف، وذاب النبض في قلوبنا الى غير رجعة، لاشيء يجمعنا في هذه اللحظة سوى وجوم أبله، مستفتز يلكزنا. كأنه يُذكرنا بأننا ذات فرح وذات جوع، قد تشاركنا مع جدران هذه الدار، ذاك الوجع النّزِق الموسوم على مساماتنا التي أدمنت الحزن.

الدار أبدلت ثوبها الجصي المتسخ العتيق الذي أحببناه، بثوبِ فضفاض أكثر بياضاً، يتمعنُ في إستحضار تلك الذكريات المكلومة، والصور المُشّوهة والحكايات التي تتدفق كشلال غاضب من بُرطم جدتي، لا أحد يعرف سِّر ذلك البُرطُم سواي، لأنني أعلمُ أنه مدفون تحت الدار التي إنهارت بفعل التنانين الحديدية التي خرجت من رأس باشطابيا..!.

***

لم تكن الدار قبل ان تنهار بشيء يُشار إليه بالبنان، بل كانت دار عادية تشبه بقية الدور في أعلى منطقة الميدان، مُطلة على نهر دجلة الساكت خجلاً النحيل قواماً، ينام ويصحو سكانها على أصوات قدور “متي” صانع الباقلاء، وهو يضربها بملعقة سَوداء مُتسخة، سرقها من قصر آشور بانيبال حسب مباهاته بعد عام ٢٠٠٣..!، فتصدر صوت جقجقة أحببناها وألِفناها، بل كانت تنبهنا بإندلاق النهار.

لا أعلم كيف سوف أدخل الدار التي أبدلت ريشها، وإحتفظت بقلبها تحت الأرض، وبالذات اني أقف الآن على عتبتها الحجرية التي تشوهت، ومازالت تتنفس رغم تغير لونها. وأمام ذاك الباب الخشبي المُقوس الخجل، بقبضتهِ الصاجِية الكبيرة الَمتورمة التي تشبه القلب، المصنوعة من خشب الصاج البورمي الذي غلف مساند الجسر العتيق في عهد الملك غازي عام ١٩٣٣، والتي أصرّت أم براطم أن يصنعها غازي النجار في سوق الشعارين تيمناً بإسم الملك، قائلة لنا ان هذا الرجل لم يدخل قلبه الغش، ولم تُصب روحه بالعطب.

أمد يدي فأفتح الباب المكتهل، هو كل ماتبقى من ذاكرة الدار العتيق الممسوخ، فأشعر برعشة غريبة تدب في يدي، وأشم رائحة زيت الغزنايج التي تعودت أم براطم ان تدهن الباب به، بل تقلب المطبخ رأسا على عقب إذا لم يمسح الباب بالغزنايج كل جمعة، مُدعيّة أنه يطرد الحسد ويجلب البركة.

أتذكر جدتي وهي تجلس عند رأس الإيوان الرخامي في الوسط بالذات، مُلتفحة بعباءتها المتهالكة الليلكية المذهبة، وتحلف وتقسم بروح أبيها وأمها والنبي يونس وآل البيت، أنها من محل حمودي الأعور قرب صيدلية اليوزبكي في السرجخانة، وليست من تركيا. ويعلو هدير أوامرها المطبخية الصارمة لِكنّاتِها، حول كمية الملح والبهارات والفلفل الأسود التي تُوضع في الطعام.

كان بإمكان أم براطم بلحظة أن تستحضر كل شتائم العالم، بل تأخذ الدكتوراه الفخرية في قباحة الشتائم الفرنسية التي حفظتها عن ظهر قلب، بفعل إدمانها على مشاهدة الأفلام الفرنسية المترجمة، لأنها تحب برج إيفل، فهو يشبه منارة الحدباء حسب إدعائها، فهي تقول” إيفل أعوج من جوا والحدباء من فوق”. إذا إختلفت مقادير الطبخ. لذا كان مطبخ أم براطم يُدوِّخ المحلة، بل كانت رائحته تفضحنا إذا ما عملنا كبة التشيشي بالسلق وحامض السماق.

***

في زمن ما وذات مساء كانوني قارس جمعتنا جدتي في رهرتها الدافئة شتاءً الباردة صيفًا، فهي  لاتفارقها أو تخرج منها إلا لإضافة نكهة بُرطمية على قدور الطبخ، أو لِفضِّ إشتباكات الكناين الملعقية، والتقليل من صخب بهجةِ الشتائم الفضائحية بينهن، خوفا من شياطين باشطابيا أن تهجم البيت. ولأن كلامها لايقبل القسمة على دِستّين، بل أمضى من سكين عبدالله القصاب في بداية سوق العتمي، وبسبب ضيق صبر الكناين منها، فقد وهبنّها لقب أم براطم دون فرمان عثماني، وإشتهرت بذلك في المحلة، وربما أعجبها الإسم، لأن ذلك الفم لايهدأ ولايبرد.

نلتف حول بعضنا البعض، بألفة بليدة وبريئة تجمعنا في تلك الرهرة التي أخذت شكلها المرمري الغريب من الطراز الآشوري الفخم، فيها تعلمنا أولى الحكايات عن المدينة القديمة، وأبواب الموصل الحجرية الثلاثة عشر، وقصص حسين النمنم، بل كانت تخبرنا في السِّر أن سرداب جنيد الفخري يحوي الكثير من الأسرار التي لاتستطيع البوح بها حالياً خوفا من الحكوَمة. ننظر إليها بوجلٍ وخوفٍ إعتدناه وأحببناه، وهي تستمر بتحريك بُرطمها الدبق، تارة بصوتٍ مُنخفض وتارة بصوتٍ عالي يلكز الضلوع. تخبرنا بفرحٍ يكاد يشقُ صدرها، عن تلك الصورة ذات الإطار الذهبي المعلقة وسط الحوش، يظهر منها شخص مبتسم متورد الخدين خُط في أسفلها عند الزاوية اليسرى بالذات أسم نجيب يونس، وبقربها عبارة بالخط الكوفي تُزين لوحة مؤطرة بخشب زان كُتب عليها “لا غالب إلا الله”، مُذيلة بنقش يوسف ذنون، وتستمر المستطيلات والمربعات تؤطر جدران حوش الإيوان الرخامي، بتراتب غير منتظم وإرتفاعات مختلفة، لراكان دبدوب، وشاهين الظاهر، وعضيد طارق، واحمد دخيل، وخليف، وعبد الرزاق المولى، وباسل إدريس، وصورة قديمة بالأبيض والأسود ليونس بحري، وأخرى لأستوديو مؤيد السبعاوي، جارها الذي إعتاد زيارتها كل جمعة ليأخذ حصته من دست الدولمة، ولم نفهم لماذا بيتنا مليء بالصور، كأنه متحف نينوى قبل أن يُنهب ويُدمر. علمنا بعد ذلك ان أُم براطم تحب الطرب الموصلي وتعشق فخري فاضل، وعامر يونس، وتقول لماذا احمد المصلاوي لايغني مصلاوي بس..!. بل ذات مرة أخبرتنا ان لها علاقة سرية مع محمد حسين مرعي وأنه أحلى من جورج مايكل.

بقيت جدتي أم براطم تلوك الحكايات في فمها، وتعجنها بطين الصبر المُتبل بالحرمان، وتخبرنا أن التنانين الحديدية الطائرة ستحرق الموصل، وأنها ستخرج من قلعة باشطابيا المتكئة على دكة الدهر، وتُحلق فوقها، وتُخرج من فمها الزقوم، واللهب، وستحرق محلة الميدان، والخاتونية، وجيخانة الطوالب، ومحلة اليهود، وكنيسة الطاهرة، وشارع النجفي، وسوق السمّاكة، والعطارين، وأننا سنتحسّر على حبة ملبس إنفرطت من باكيتات شكر العقد المزركشة لرياض الشيخو في باب السراي، وسنحلم أن نتمنطق ولو بقطعة واحدة من فلافل بدر، وسيجفُ حلقنا، وحشة لزبيب الإخلاص، وسننام جميعا تحت الأرض، محتضنين الحجر، مدثرين بالسقوف، ولن نخرج أبداً..!.

غريب ما تفوهت بهِ أم براطم، والأغرب إننا لم نفهمه، ولم نهتم به، ولم نصدقه. ولأول مرة نتصورها تهذي وأصابها شيء من الخرف المُبكر، وإستغربنا أكثر عندما تحدثت عن أبواب الموصل بمسميات أخرى عجيبة لم نسمع بها. لكن ما جعلنا نصغي بصمت خانق مليء بالدهشة، تلك الدموع اللامعة المتجلدة في عينها المحمرتين الغائرتين في جمجمتها، لم نرّ أم براطم بهذا الشكل والمظهر المُكفهر المُخيف، إلا عندما إندلق الكلام عن الأبواب، وبلكنة جنائزية واعظة لم نتعودها، ولم نفهمها في حينها، لأن قلوبنا الإسفنجية أصابها اليباس.

َتدثرت بعباءتها وأخذت نفساً عميقاً، حبستهُ في صدرها العظمي، وتوقعنا أن تُخرج من فمها النار، كما التنانين الحديدية التي أرعبتنا بها، لكننا أحسسنا جميعا من نظراتها الشاردة في سقف الرهرّة أن هذا البُرطم سيتوقف بعد حكاية الأبواب .

***

بدأ فمها يلهجُ وينوء بِحملِ الكلمات التي كانت تخرج من قلبها المرتجف وهي تقول.. الأبواب نبض عميق النوايا،  خفي وقصي، لأولئك البسطاء المنكوبين الذين عاشوا تحت وطأتها، وإحتموا بها، وتصالحوا معها، وعاشوا في بطنها، فشاركتهم خوفهم ورعشاتهم مع كل طرقة، بل ان الخوف الساكن فيهم، والمنتشي في داخلهم، سكن مع سبق التوعد في جنبات تلك الأبواب الخشبية العتيقة المصنوعة من خشب الجوز والصندل، وأصبح واضحا في صريرها الخافت الحزين، وكأنها تشعر وتحس بضربات قلوبهم المرتعشة خوفا، وهي تكاد تخرج من صدورهم النحيلة رغما عنهم، بحثاً عن ملاذٍ آمن.

تستمر الجدة الطاعنة في البياض بالبوح، الأبواب تشبه البشر الى حد ما، فهي تولد دون موعد، وتكبر وتشيخ دون موعد، ولابد من يدٍ حانية تُجملها أو تُمسِد عليها، مثلما هناك أبواب فرِحة ضاحِكة مبتهِجة، هناك أبواب مُنكمشة ومُنحنية وحزينة، وأخرى بلا شرف.

تستمرُ أم براطم في نفثِ سُمِّ الكلمات، بينما نحن مأسورين بحركة بُرطمها الذي بات يحتملُ جميع الألوان، تصرخُ وتفردُ عباءتها في فضاء المكان، بل في بعض المرّات تبصقُ في وجوهنا فجأة ونحن ساكنين لا نتململ، ولايرفُ لنا جفنٌ، فنزداد إلتصاقاً بعضنا ببعض، تزفرُ ويئِّنُ صوتها وجعاً وهي تقول، قارنوا بين الأبواب وساكنيها فكيفما كانت يكون صاحب الدار، فإن صُنعت من خشب الصاج دليل على الغنى، وإذا كانت من البلوط فهي إعلان فاضح عن الفقر، الأبواب لاتختلف عنّا يا أولادي، لها عروق متعرجة صفراء وداكنة إذا ما تمعنتم فيها، لها نبض يُعْلمنا بمن يقف وراءها، ولها قلب مصان لايرتعش، الأبواب مثلنا تماما في غبائها الأزلي، لاتتقن الإحتفاظ بالأسرار، قد تخفيها لسنوات، لكنها تفضحها ودون مواربة في لحظة صدق دميمة، الحجارة فقط تحتفظ بالأسرار، يا أولادي عندما تظهر التنانين الحديدية في السماء، أغلقوا أبوابكم، وتدثروا بالدعاء، ولاترتعبوا إذا ما نبتت على ظهوركم أجنحة بيضاء طويلة، وتذكروا ماقالته أم براطم.

***

.. من كان يعلم ان حياتنا الخفيفة، البسيطة، المتقشفة، اليابسة، المسالمة، البلهاء، ستختفي ذات لحظة كخيط عنكبوت، ومن كان يعلم أن ماتقوله أم براطم سيحصل مع سبق الفجيعة، وأن الدموع ستطارد أعيننا إن وقفنا أمام الأبواب المفجوعة والملدوغة في الموصل القديمة، وقلنا بإستحياء لقد نسينا أو أصبحنا لانتذكر، أدفع الباب وأدخل…….  .

**********

* الأماكن حقيقية والأسماء التي وردت في النص هي لشخصيات موصلية معروفة.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى