ضوء تنفرد بنشر قصة(توليب أبيض)للقاص والروائي نزار عبد الستار
قصة قصيرة: نزار عبد الستار
حين جاؤا به ليلاً، كان قد فقد البرودة اللازمة لنضارة الذكرى، وتحطمت في قلبه اغلب
آماله في أن يعثر على نردين التي أتى من ساحل مدينة دين هيلدر الهولندية إلى شارع
السعدون في بغداد، كي يهديها ثلاث زهرات من توليب ابيض.
عرفتُ، وأنا في غمرة خيبتي، أنه غير قادر على الوثوق بأحد، وانني لن أتمكن أبدا
من بيعه قطعاً مزيفة من تمثال صدام حسين الذي اسقطه الامريكان في ساحة الفردوس،
بل حتى أنني لن أنجح في عرض الإدّعاءات اللازمة كي يصدق أنني امتلكُ جمجمة
الفنان التشكيلي الشهير فائق حسن. كان متشنج الوجه، وخامل الانفاس، وقد أنهكه
التفاوت المناخي بين بحر الشمال، والغبار المريب الذي يكسو الحياة في الباب الشرقي.
اشترطوا، قبل أن يسلموني الهولندي ومبلغ الألف دولار، أنْ أتعهد بعدم استعمال أي
وسيلة للتدفئة، وأن اتقيد بتعليماته بشأن تأمين إقامة مثالية لازهار التوليب، وأن أعثر
على نردين في ظرف عشرة ايام. وحتى يشعروني بأنهم ايضا اولاد شوارع، لكن ببدلات من
ماريو زينوتي، وسيارة جيب رباعية الدفع، قام أحدهم بنقل مسدسه الكلوك من يسار حزامه
إلى يمينه.
لم أفهم منه شيئا. كان يعاني تداخلاً في الأزمنة، ويُجهد نفسَه في تنشيط انطباعاته القديمة
عن النوم في الوطن، ملتقطاً الذكريات من على بعد عشرين سنة تفصله عن جنسيته
الحقيقية. أعطيته الغرفة المطلة على ساحة النصر، حيث يمكنه التشبع بمنظر تمثال عبد المحسن
السعدون في نسخته الجصية الكاذبة ريثما تعتدل عواطفه، ووضعتُ ازهار التوليب في غرفة
اخرى جرداء. حرصت على أن أقرّبها من النافذة، كما أمرني، كي تبقى أوراقها مغلقة إلى أن
يحل الربيع. ومن أجل أن يطمئن قلبه أكثر، أعطاني عدسة مكبرة كي أدقق كل ثلاث ساعات
في التربة بحثاً عن حشائش ضارة.
كان في نهاية الأربعين. يميلُ إلى النحافة لكنه ملفوف باستقامة مثل عمود كهرباء، ولامع
السمرة كأنه بورتريه لرامبرانت. جاءوا له بمستلزمات معيشة تجعله لأسابيع بمنأى عن ضيافتي.
امتلأ المطبخ بالاغذية المعلبة، والفواكه الغريبة، والمياه المعدنية، وأمنوا له الحمام،
ومكان نومه في بذخ أحرجني. توقعت أنهم افهموه بأنه حظي بخادم، إلاّ أنه سرعان ما تدارك اشتباهي،
وأعلمني بلهجة بغدادية عتيقة أنه يعاني أمراضاً بحرية كثيرة، وأن عليّ أن أعد همجية حراسه
واجباً يتطلبه الثراء، وأن أفسر الغرابة التي تشتته بأنها أعراض حب مزمن.
أخرجت له قنينة ويسكي نوع Black and white وتركته يتعمق وحده بالندم.
* *
بدأت البحث عن نردين اعتماداً على ورقة معلومات فقيرة سلمني إياها، في اليوم التالي، حارس ضخم
الجثة يخلو رأسه من الشعر. هو أسماها معلومات، لكنها في الحقيقة بلا قيمة، فهي لا تحتوي
على اسم عائلة، أو على شكوك أولية. طلب مني إجراء مسح في الكرادة بشطريها، وزيّونة،
والسعدون. وأخبرني أنه من غير المسموح لي البحث عن نردين في مناطق أبعد. كما حذرني
من السعي إلى الحصول على معلوماتٍ من اجهزة الدولة، وأن عليّ عدم المطالبة بأي نفقات.
وقال في النهاية إنه من غير المهم اطلاع الجهة التي اعطتني النقود على نتائج البحث.
وإذا ما انتهت الفترة المحددة، أكونُ قد أنجزتُ مهمتي بشكل كامل، دون أن تكونَ للنتائج أهمية
استثنائية.
ثلاثة أيام ونحن نفتتح صباحنا بشوربة مطعم راوندوز، ونختتم ليلنا ببار الموعد. كان يبدو
على الهولندي أنه يستمتع كما يفترض بمهاجر عراقي عاد بشوق إلى أكل التمر. كنت أتغيبُ
لساعتين في اليوم، وأرجع متلهفا لتفقد التوليب. لم يكن من اللائق تعطيل انهماكه اليومي
في تذكّر نردين، لذا فضلت أن أشعره فقط بأنني كتبت الشعر يوما، ولكنني فشلت، والآن أعمل
بمهنية لص يقدر على سرقة رمش العين.
الصديق الذي نصح حراس الهولندي بي، وكفلني امامهم، طلب مني، في صباح اليوم الرابع،
ألاّ أبالغ في التعلق، وقال لي عبر الهاتف:
ـ اشعره أنك ستعثر عليها.. استعملْ خدعة عاطفية سهلة.. لا تندمج في المهمة، ولا تتعب نفسك.
كان الهولندي يدرك وهو يصعد إلى سماء ماضيه مع نردين أنني بدأت اتكيف معه، وأتدرج في
حبه. أنا أيضاً انتبهتُ إلى اخلاصي، وإلى نوبة الطيبة التي كانت تجتاحني إلى درجة انني فقدت
الكثير من حقارتي. معظم الذين يعودون إلى الوطن لا يظهر عليهم أنهم فارقوا ساحة الطيران دقيقة
واحدة، أما هذا الهولندي فيبدو، من شدة تطوره الاخلاقي، أنه قرأ عنا في الانترنت.
فهم بسرعة أنني اخجل من أفعالي القديمة المشينة، وأنني لو هاجرتُ مثله لصرت اليوم شخصا
مختلفا. أحب الهولندي كثيرا طريقتي في تفسير بغداد، وأخذتُ أكتشف ساعة بعد ساعة أنني أصاحب
شخصاً لا يستحق أنْ أخدعَهُ. أظنه راقبني، وأنا أقدم رعايتي المثالية لزهرات التوليب. أعتقد أنه
كان بحاجة فقط لتقدير درجة انبهاري، وإذا ما كان جمالها الأبيض قد أصاب قلبي. حكيتُ له
قصتي، واعترفتُ أمامه أنني ارتكبتُ حماقاتٍ مدمرة، ورجوته ألاّ يربط تقديري له بحاجتي إلى المال،
لكنني كرهت فيه عادةَ أنْ يُمسكَ بمعصمي وهو يتكلم عن نردين. كان ذلك يجعله متورد الوجه،
وتفوح منه رائحة ليست بالتأكيد من روعة بيرة Heineken.
* *
حين نسير، بعد منتصف الليل، سائبين في الشوارع، هو، وأنا، والكلاب، يحكي الهولندي عن بهجة
أن تكون في الحياة امرأةٌ تمسك بكل شيء كي لا تقعَ الفوضى. قال لي إنّها عاشتْ هنا، وكانت
تملكُ لوناً لحمياً اذا ما وصلتْه الشمسُ يتوهج كما البرق الذي يتولد من اختراق ملاك البريد
غلاف الألوهية متوجهاً إلى الجو الارضي. وإنّ ثمة شيء غير طبيعي في عرق كفها. وإنه لم يكتشف
كل خوارقه بعد، لكنه يتوقع أنه اقوى من العسل المخلوط بالقرفة والزنجبيل. واخبرني كيف أّنه كان
يعاني تقشراً موسمياً في جلد يديه، وقد شفي منه تماماً حين رتب له الله فرصة أنْ يمسكَ باطراف
أصابعها. وأراد أنْ يضرب لي مثلاً فيما كانتْ تفعله به ضحكتُها المتميزة، إلا أنه تاه في الصمت
ونسي الامر. وتوقع مني أن أصدّقَ أنه كان يعثر على الأرصفة، وهو يمشي، على الكثير من الدنانير
كلما قالت له “صباحك ورد”، وابتسمت على طريقتها التي تشبه إمالة كأس مارتيني إلى درجة
أنْ تسقطَ منه زيتونة خضراء محشوة بفلفل احمر.
انتهزتُ قوة إيمانه بها وسألتُه:
ـ أين تتوقع أن تكونَ نردين الآن؟.
توقفنا، هو، وأنا، والكلاب عن المشي، ونظر إليَّ مستغرباً، وقد استرد صلته بالواقع:
ـ إنها في كل مكان.
كنا احيانا نقع، أنا وهو، في أزمة أننا نبحث عن شيء غير موجود. كان مطلوباً مني أن أجنبه
الاحباط، وقد أدركتُ مبكراً أنّ مهمتي تكمن في جعله ينشغلُ بأمرٍ مهم، وقضية مصيرية، وأن
ما يجري ليس أكثر من ارادة عليا سخية تريد للهولندي أنْ يشعر بسعادة أنه عاشقٌ لا يهزمه
المستحيل، وكان عليّ أن أهبه قدراً كبيراً من الامل.
حين أجده غير قادر على تمييز ضجيج سيارات الشرطة، والانتباه لهيمنة العربات العسكرية الأمريكية،
أعرف أنه يريد ان يحكي عن نردين. أحب الهولندي مقهى الزيتون حيث يمكن الانفراد بالذكرى
خلف سياج أخضر. قال لي إنه لم يرَ الكثير مما تملكه من ملابس، ومجوهرات، لكنه يحب
بلوزتها التي باللون الأسود والكحلي، والمليئة بدوائر بيض أكبرها بحجم درهم ما قبل الحروب.
كانت تلك البلوزة بلا أكمام، ومفتوحة طوليا بحيث تكشف عن خط تلاصق النهدين. يتورم
وجهه من هول الصورة، ويغطس في الصمت على المقعد البلاستيكي الضيق لان بلوزتها
التي بين الأسود والكحلي أهم ما في الدنيا، وتستحق منه التوقف عن قول أي شيء آخر.
جعلني أعيد التفكير بكل النساء اللواتي عرفتهن. قلت له – ونحن في بار الموعد – إنني ارشح
سوزان لان تكون نردينتي. اعترفت له بأنني كثيرا ما أقع بحب العاهرات. حين أشرب الويسكي أشعر
ُ بالحزن. قال لي إنه خرج بنظريات عدة بشأن وهم الحب. أردته أن يعلمني هذه النظريات،
لكنه رفض، وقال لي:
ـ إن أخبرتك، فإنك لن تستطيع أن تسرق بعد أن أرحل، وستموت فوق غيمة.
* *
اشتبهتُ مدة يوم بسيدةٍ تعمل في مكتب الخطوط الجوية التركية. ودلتني معلومة خاطئة أخرى
جاءتني من صديقة بتاوية إلى صاحبة بوتيك في الكرادة. انتبهتُ إلى ضرورة أن أغيّر مصادري
النسائية، وأنْ أوظف بنات، هاي كلاس، بعمر العشرين يعرفن الأماكن السرية المحصنة في بغداد.
كلفت جولييت بأن تبحث لي في نادي العلوية، وفي الصالونات الثقافية الخاصة التي تدار من قبل
السيدات، وألاّ تهمل الحفلات التي تقام في نادي الصيد رغم بعده عن الرقعة الجغرافية المخصصة
لي. أما لارا، فقد طلبتُ منها التركيز على العائلات الارستقراطية في زيّونة، وبالأخص تلك التي
لها جذور في شارع السعدون.
لم يكن بالإمكان ثني الهولندي عن الاختلاطات العاطفية التي كان يعانيها. حاولت أن أسرق منه
ذكرى مضيئة تعينني على اختصار التيه الذي أنا فيه إلاّ أن تحليلاتي المستخلصة من كلامه عن
نردين كانت تشبه محاولة عد اطلاقات رشاش امريكي. أخذته إلى الشوارع الخلفية لعله يعطيني
إشارة اهتمام ببيت، أو ببقعة اسفلت، أو بشجرة. كان يبدو غائبا عن العالم، وقد أتلفت نردين
احساسه بالارض.
كانت عقلانيتنا لا تظهر إلا في الزيارات المفروضة التي نقوم بها يوميا لتفقد التوليب، فصحّة
الزهرات تتطلب منا دقة ملاحظة، وقوة وعي للتأكد من سلامة النمو، وصلاحية البيئة. كان
الهولندي يتأملها لوقت ثقيل مقرباً وجهَه منها إلى حد فقدان الحذر، فينسى نفسه، ويداعب بياضَها
بظاهر سبابته في لمسة تنكمش لها يده خجلاً.
قلت له مرة، وأنا أركع بجواره كي يكون رأسي بمستوى وعاء التوليب الذي على حافة النافذة الواطئة:
ـ لا تقلق بشأن البرودة.. التوليب ينتظرُ نردين ايضاً، ولن تتفتح الزهرات إلا بين يديها.
نظر الي وكأنه يوشك على البكاء، ثم جمعني بين ذراعيه قائلا:
ـ كنت أعلم أنك ستعرف هذا.
أرجعته، وأنا امسك به من كتفيه، حتى استقام ظهره من جديد. أوحيت اليه أن لحظة هابطة من
علياء الغيب تمر بنا الآن، وسألته:
ـ أين التقيت نردين أول مرة؟.
أجابني، وهو مشرّد الروح:
ـ لستُ الوحيد الذي لا يعرف. كل البشر لا يتذكرون اللحظة التي خرجوا بها من بطون أمهاتهم.
* *
لم يغيّر بنطلون الكتان البيج، والقميص الازرق الفاتح، ومع هذا فقد كان دائم التعبير عن نبله
الثري بأن يدفع لي نفقاتي، ويوصيني بعدم لمس الالف دولار التي في جيبي. حتى أنه كان يفرّ
بي من مراقبة حراسه الأمنيين مطبقا اساليب عصابة آل كابوني في التخلص من شرطة الخمور
السريين كي تهون عليّ سفالتي. قلت له إنني استطيع ان افكك في الليل جسر الصرافية الحديدي
قطعة قطعة من فوق دجلة، وأعيد تركيبه صباحا على نهر الكارون دون ان يشعر بي أحد، ولكنني
أجد أن العثور على نردين، وإهداءها ثلاث زهرات من توليب أبيض هو أحلى من السطو على البنك
المركزي.
بينما نحن في الليل، على الشرفة، نرتجف من البرد، وننظر باحترام إلى تمثال عبد المحسن السعدون
الاخضر حكى لي بأن نردين تعتقد أن أنفها غير جميل. أرادني ان أتخيل هذا الجنون. كان متألماً لأنها
تعتقد ذلك، وأخذ نفساً عميقاً، فتعبأ بالحزن حتى ظننته سيرتفعُ من على الشرفة، وتأخذه الريح معها.
استغرب من أنها تدهن نفسَها بكل ما تطرحه لوريال، وايف روشيه من مستحضرات تجميل، وتأسّف
لأنها لا تصدقه. شرح لي علاقة نردين بفكرة الإنسان الخارق، وقال بأنّ وجودها يعني السعي
لارضائها، وهذا يتطلب منه ألاّ يكذب أبداً، وأن يكون قوياً، وشريفاً، ومفعماً بالقدرة على قهر
المستحيل، وهكذا فإن العاشق قد لا يصل بحبه إلى السعادة، ولكنه حتماً ينال درجة النقاء الكبرى.
وقال لي إنها حين تبللُ شعرها، وتبتسم بفمها الاحمر، مضيقة عينيها كقطة، فان لا سوء يبقى في العالم.
وعندما طلع الفجر علينا، وتوقّف عن الشرب، وصار يرى ساحة النصر على حقيقتها، قال بانزعاج:
ـ هذا ليس عبد المحسن السعدون الذي نحته الايطالي اوسكار ثانونينكا!.
قلتُ له، وأنا اشعر بالعار:
ـ السعدون الاصلي سرقه اللصوص ليحصلوا على مادة البرونز.
نظر في وجهي وقد طعنته الخيبة:
ـ أنت لم تمنعهم، فكيف ستعثر لي على نردين؟.
* *
في العاشرة من صباح يومه السادس معي استيقظ الهولندي ليجد سوزان تسير في الشقة
ببلوزة نمرية ضيقة وبنطلون فيزون، وهي على أبهى إغراء يمكن ان يتمناه الخيال التناسلي الذكري.
كانت سوزان طيف سكريات بلورية تتحرك بالالهام. تملك جمالاً شفافاً لا يصلح معه سوى اللون
الابيض. وردية الاعضاء والزوايا. ويوجد تلاصق في طرفي فمها للزوجة لعابها وهلامية شفتيها.
واذا ما اطبقتْ جفنيها برمشة اعتيادية فإنها تأخذُ وقتاً حتى تفتح عينيها مجددا. أعطيتها الألف
دولار، وأوصيتُها أن تمشي في الشقة، وكأن لا أحد على الأرض سواها.
قاومت سوزان البرد ليومين بشجاعة وكانت تتمهل كعارضة أزياء كلما أشدتُ، أمام الهولندي،
بشيء فيها. وافقني على ان ثدييها بكمال قبة محطة قطار بغداد، وان مؤخرتها مثل طبل
منفرد الشخصية في فرقة جسدها السيمفوني. اعطيتها العدسة المكبرة، ورحت أتغيب لساعات
عن البيت، لكنني كلما عدت أجدهما في غرفة التوليب، وقد ركعا عند حافة النافذة الواطئة
في منظر خاشع، وكأنهما في ابتهال.
كنا نقف متلاصقين، ونحن نأكل كبة سيمون الشهيرة حين قال لي الهولندي إنني أتعبتُ نفسي كثيرا،
وإنه يقدر لي هذا. ترك صحنه على النصف، ووقف في الخارج يدخن ناظراً إلى ظهر تمثال السعدون
المزيف. مشينا باتجاه مقهى الزيتون. كنت قد خالفتُ التعليمات وتسللت، عبر أصدقاء فاسدين،
إلى كومبيوترات المديرية العامة للتموين، وأن ضابطاً كبيراً في الداخلية، يعمل في المركز الوطني
للمعلومات، أبلغني بالأمس ان نردينتنا ليست من بين نردينات بغداد.
أمسكني الهولندي من معصمي وسألني:
ـ هل تؤمن أن نردين غير موجودة؟.
كان منهكا، ويتوقع ان يسوء الحظ:
ـ إنها موجودة، وسأعثرُ عليها، وسترى كيف أن التوليب سيتفتح بين يديها.
أعطتْنا سوزان قدراً مشجعاً من الاسترخاء. نظفتِ الجدران، والسقوف، وأزالتْ طبقات الغبار
السود عن المراوح وديكورات الاضاءة، ومنحت الأرضية بريقاً مريحاً، واختارتْ لوحة لجواد
سليم من بين تسع لوحاتٍ مسروقة من المتحف، احتفظُ بها في مخزن صغير، وعلقتها في
غرفة الهولندي الذي سألني إن كانت اللوحة مزيفة مثل تمثال محسن السعدون، فأكدت له
أنها أصلية، وأطلعته على المجموعة كلها، وأخبرته انه عُرض عليّ مبلغ نصف مليون دولار،
ولكنني لم ابعها.
حوّلت سوزان الشرفة إلى مكان لائق، وعملت لنا مجموعة شهية من المقبلات، وأوصتنا ان نشرب
الويسكي دون إضافة الصودا كي نعالج السعال الذي هدنا، ثم ذهبت إلى غرفة التوليب. كان
الهولندي يشعر بالحزن، أما أنا فكنت أتخيل لحظة ان يغادرنا بانكسار، وهو يحمل زهرات التوليب معه.
بحتُ له بسرّ سوزان، بعد أن شربتُ كثيراً، وقلت للهولندي عنها إن جسدها حين ينطلقُ يفرز
سخونة طافحة بالمتعة، وكأنها منبع مياه كبريتية حارة، وإنه إذا ما رغب في أن يكون معها في
السرير، فسيشعر أنه يضاجع حورية من البحر الميت، دسمة المعادن والفوائد، وأن عليه أن
يتمهل كي يستمتع بمعجزة تصاعد البخار من عضوه.
* *
في نهار اليوم الثامن وصلتني إشارة حية من لارا تفيد بوجود امرأة في الأربعين تحمل اسم الأب
نفسه، وهي ابنة مستثمر عراقي، ومتزوجة من إماراتي، وان عليّ أن أكون أنيقا، وواقفاً في
الساعة السابعة مساء عند تمثال كهرمانة، ومعي هديةٌ غالية لطفل في الثامنة.
كانت حفلة عيد ميلاد مقامة في بيت فخم لا يبعدُ كثيرا عن ملعب الشعب. قدمتني لارا على أنني
خطيبها. انتظرتُ ساعة ونصف قبل أن أرى نردين، وأخذتُ نصف ساعة أخرى حتى تمكنت من
فتح حديث معها مستعينا بالمعلومات التي زودتني بها لارا. كانت نردين سيدة بيضاء مدورة
الوجه، وطويلة القامة في امتلاء. وجدت انفها أجمل ما فيها، وحين رأيتها تضحك لم اعثر
على أي شبه بينها وبين القطة. سألتها عن ابيها ومشاريعه الجديدة، وقلت لها إنني التقيت به
في البحرين، قبل عامين، وكان وقتها متحمساً لمشاريع يقيمها في العراق، فقالت إنها لا تعتقد
أن الأمر ممكن الآن بسبب الظروف الأمنية، وإن الأموال العراقية في الخارج ضخمة، ومن الصعب
استعادتها نظراً لنموها المتزايد.
لم أتمكن من وضع البلوزة التي بلا أكمام، ولونها بين الأسود والحكلي في حوارنا، ولكنني نظرتُ
في عمق عينيها وقلت لها:
ـ لي صديقٌ كان مغتربا في هولندا، مدة عشرين سنة، وعاد إلى بغداد يحمل ثلاث زهرات توليب ابيض.
ردت على الفور مع ابتسامة باردة:
ـ الزهور الطبيعية غالية جداً هنا. صديقك ذكي، وهذا مشروع حلو.
* *
شربنا عدة فناجين من القهوة في مقهى الزيتون، وأنا أترقب أن يحكي الهولندي عن نردين،
إلاّ أنه أمسكني من معصمي من اجل ان نقوم لنرجع إلى الشقة.
سألني ونحن نعبر الشارع:
ـ هل تنتظر أن تحصل على مبلغ أعلى من النصف مليون دولار؟.
قلت له ونحن نقفُ على الجزرة الوسطية بانتظار أن يمر الرتل العسكري الأمريكي:
ـ سأعيدُ اللوحات إلى المتحف بعد أن أتمتعَ بها قليلا..اعتقد أن نردين حين تعرف أنني فعلت
هذا ستحترمني، وستفرح كثيرا.
شد على معصمي، وقال بصوت قوي:
ـ نعم ستفرح نردين.
كانت سيارة الجيب واقفة بباب العمارة. ترجل حارس اسمر، ونقر باصبعه على ساعة يده تذكيرا بأن
الوقت قد حان لاسترداد الهولندي. تجاهلناه، وصعدنا إلى الشقة. رأينا كل الأركان مرتبة، وتفوح
من الفضاءات رائحة جورية منعشة. وجدنا باب غرفة التوليب مفتوحا. تقدمنا إلى الداخل. هزنا
منظر العشرات من أزهار التوليب موزعة على أنحاء الغرفة، وقد تجمع الكثير منها على حافة النافذة،
حيث كانت سوزان ببلوزها النمري وبنطلون الفيزون راكعة، والضوء يسقط عليها من قطعة السماء
الظاهرة من مربعات قضبان النافذة. اقتربنا بحذر، ونحن نتباعد حتى صار الهولندي على يمين سوزان،
وأنا على يسارها. ركعنا بجوارها، ورحنا ننظر إلى ذلك البياض النائم بوداعة.
قالت سوزان:
ـ انها بصحة جيدة، ويعجبها بردنا.
سألها الهولندي بصوت ناعم عن هذه المعجزة، فقالت:
ـ اشتريتها بألف دولار.. جلبوها لي من اسطنبول.
وضعت يدي على كتفها، فالتفتتْ نحوي قائلة وهي تبذل مجهودا كي تباعد شفتيها اللزجتين:
ـ ستفرح نردين، وتشعر بالحب حين تتفتح أزهار التوليب بين يديها.
ردد الهولندي بصوت مخنوق:
ـ نعم ستفرح نردين.. ستفرح.
اقرأ أيضا: القناص