عن المطر وغبار الخيول

نزار عبد الستار

الكتاب الأول يشبه ممارسة القفز العريض، فلابد من ضبط  تكنيك السرعة الانتقالية وصولا إلى البعد الاقصى، حتى إذا ما صدر الكتاب نكون قد افترقنا مسافة رياضية عما كان يعد بالأمس هواية، وموهبة واعدة.

المطر وغبار الخيول هو كتابي الأول. احتوى على 12 قصة، وصدر عام 1995 ببغداد ضمن مشروع الـ 64 كتابا سنويا الذي تبناه اتحاد أدباء العراق بدعم حكومي. كنت وقتها في السابعة والعشرين من العمر، وأظن بشيء من الزهو، أنني أبدو شكلا مرئيا للعديد من الأدباء والمثقفين الأكبر سنا. في ذلك الزمن تحديدا كان على الجميع متابعة ما يجري بانتباه وترقب. كنا قد وصلنا إلى اقصى حالات التقشف بسبب العقوبات الأممية على العراق في اعقاب غزو الكويت، وكانت الحياة الاجتماعية تشبه علب اطعمة محفوظة لا بد عند فتحها من اتباع طريقة واحدة.

كتبت المطر وغبار الخيول وأنا أظن أن لي  وظيفة رسولية. أبدو متناقضا لنفسي وحتى لأمي، فبينما كنت اشبه الدراويش الروس، ونسخة من مونسينيور بيينفينو في رواية البؤساء، إلا أنني تلقيت تربية نيتشوية، وشوبنهورية، وسارترية، لذلك كنت احتفي بالفكرة والمشاعر معا، إلا أن الذي جعلني أفلت من ضحالة المراهقة، وتلبسات غباء الحداثة، ووهم العاج هو أنني كنت مدركا منذ البداية لأهمية الفواصل التي احدثتها اختراعات غوستاف فلوبير منطلقا من الصبر الحلزوني الذي كان عليه موباسان وصولا إلى رومانسية الكتاب الألمان في ظل الحرب العالمية الثانية.  تمرنت كثيرا على صناعة المشهد، وتقنيات الحوار، ودققت في البناء، ودربت حواسي على التسخير الأدبي، والأهم من كل هذا هو أنني لم أشعر في حياتي بالرضا عما أكتب.

قيمة هذا الكتاب أنه منقسم إلى مشغلين الأول هو مزيج من فانتازيا تاريخية وتكوينات مثيولوجية مخلّقة تمزج الماضي بالحاضر، والثاني فانتازيا واقعية تعتمد بنية الصور الايحائية المتتابعة والفواصل الحوارية، وهو تكنيك لم تعرفه القصة العراقية التي كانت تفتقر وقتها بسبب رواج أدب الحرب التعبوي إلى التكثيف، وتخطيء في توظيف الوصف والشاعرية، وتعاني الانشائية.

امتلك اليوم الكثير من الملاحظات التي تشعرني بالخجل، ولا تدفعني إلى التفكير في إعادة طبع هذا الكتاب. الأمر لا يخرج عن كونه قسوة مفرطة امارسها ضد نفسي، ولكن ما عدا بعض الاخطاء المشينة التي وقعت فيها، فإن كتاب المطر وغبار الخيول اعده كتابا متفوقا حقق لي قفزة عريضة وضعتني في دائرة الاهتمام بسرعة فائقة. صحيح أنه انزلني ببرشوت في قلب الوسط الأدبي، وصار اسمي يلحق بذيل مجموعة اسماء اخذت على عاتقها التجديد وسبقتني بربع قرن في الاشغال الأدبية الشاقة، إلا أنني أرى الآن أن جملتي القصصية كانت متخشبة، وأنني بالغت في الغموض إلى درجة غير مقبولة.

وبغض النظر عن تقييمي الشخصي لعملي الأول إلا أن ثمة حقيقة مدهشة ارتبطت تاريخيا بعام 1995 المجيد، وهي أن ابطال التجديد في القصة العراقية، في ذلك الزمن، محمد خضير، ومحمود جنداري، وهما بالطبع من القصاصين الكبار، كانا يشتغلان بدون اتفاق على استثمار الاسطورة الرافدينية باعتبارها فضاء يمكن التوسع فيه، وتحميله الاستنطاقات الجديدة.  وفي عام 1995 اصدر محمود جنداري مجموعة مصاطب الآلهة عن دار أزمنة بعمان، ولحق به محمد خضير بنشر مجموعة رؤيا خريف في العام نفسه عن مؤسسة عبد الحميد شومان في عمان أيضا، ومن حسن حظي أن المطر وغبار الخيول جاءت لتشكل المجموعة الثالثة في هذا الاشتغال الذي حرك الوسط الثقافي العراقي، وجعله ينقسم إلى معسكرين. وفي أيار من عام 1996 فجّرت الأديبة المعروفة لطفية الدليمي قنبلة مهولة حين كتبت في مجلة الف باء واسعة الانتشار مقالة عنونتها “نزار عبد الستار في المطر وغبار الخيول / غرائبية نينوية ومطر من اساطير” وقد عدت قصصي “كتابة معاصرة جادة.. تنقب وتكتشف وتزيح وتؤسس” وبينت بشجاعة كبيرة أن قصص المطر وغبار الخيول تتقاطع “مع كثير من الاساليب المعروفة في استثمار النص الاسطوري أو الوثيقة التاريخية أو المحكي الشفاهي في كتابة النص العراقي المعاصر” في اشارة منها إلى جهود محمود جنداري ومحمد خضير في هذا الاتجاه.

مقالة لطفية الدليمي احدثت لغطا واسعا في الوسط الأدبي، ودفعت العديد من النقاد إلى الانتباه، والكتابة عن المجموعة، كما دفعت القاص المعروف عبد الستار ناصر إلى الغضب، فقام بكتابة مقالة نارية هاجم فيها لطفية الدليمي لكونها تروج للاسفاف والكتابات الشاذة وهي عبارة واجهني بها على هامش امسية اقامها اتحاد الأدباء ببغداد، وكانت المفاجأة أن رفضت جريدة القادسية نشر مقالة عبد الستار ناصر، وعدتها متشنجة، وغير موضوعية كما أن العديد من الأدباء نصحوه بالكف عن النيل من قاص شاب في السابعة والعشرين من العمر اصدر كتابه الأول لأن ذلك يضر باسمه ومكانته الأدبية. والطريف في الأمر أن عبد الستار ناصر لم يكتف بالتثقيف ضد المطر وغبار الخيول في جلساته في اتحاد الأدباء، فكتب في مجلة افاق عربية بعدد حزيران 1996 مقالة شهيرة عنونها “القصة القصيرة في العراق بين الصنعة والابداع” سخر فيها مني ومن محمود جنداري، ومحمد خضير، وبذلك وضعني دون قصد في خانة المجددين، وهي هبة كبيرة منه اختصرت لي الكثير من الجهد. ومما قاله عبد الستار ناصر في هذه المقالة “إن الذي وصل إليه بعض كتابنا اصبح من غير اللائق السكوت عليه” وهذه العبارة بالطبع مخيفة جدا قياسا لوضع البلد في عام  1996 وقد جعلتني لا أخرج من البيت مدة شهر، ولا اتواجد في الأماكن الرسمية. وعلق على مقطع اورده من قصة لي بعنوان “الحاقا بسيرته المعدلة” بأنه “شخابيط ولا مسؤولية”. إن الخطأ الجسيم الذي وقع به عبد الستار ناصر أنه عزل خلف ظهره كل الأدباء العراقيين، ووضع محمد خضير، ومحمود جنداري، ونزار عبد الستار في قفص المحاكمة، واتهمنا أننا نصنع القصة ولا نبدعها.

اليوم وبعد مرور أكثر من عشرين سنة على هذه المعارك أجد أن ما حدث مع كتاب المطر وغبار الخيول سواء ذلك الاطراء الذي حصلت عليه من خلال كتابات فاقت توقعي، أو من خلال العداء البطولي للبعض من الكتاب، هو أمر يندرج ضمن الطبيعة البطيئة للتغيير. لقد كان عليّ أمام ما شاهدته من حروب وتدمير إعادة فحص الحاضر والماضي. العراق كله في تلك المرحلة بدأ يفكر بالذي يمكن أن يفعله بما تبقى له، وهذا ما انتبهت إليه في المطر وغبار الخيول. لقد مكنتني العزلة من إعادة القراءة، والبحث عن الأشياء التي أهملتها. وبما أن المكان هو أكثر عناصر القص براءة ويوحي بالحنين والوفاء، فقد وجدت أن بالامكان تشكيله كموقف من الحدث المعاصر. أي بالامكان أن يتحول إلى فكرة مضادة ومتمردة. لقد وجدت أمامي كما هائلا من الطابوق الكئيب، والطين المعلّم بالمسامير الكتابية المتكسرة، والثيران المجنحة الخاملة، والاسوار المهدمة، والبوابات الآشورية التي لا تدخلها سوى الريح، وبدأت أبحث عن علاقة هذا بما أنا عليه الآن. إن ما فعلته هو ازالة فواصل الزمن، وتحفيز المخيلة، واستثمار البيئة، ولأن لا شيء تغير عندنا منذ الف عام، لذلك دمجت الماضي بالحاضر، ورحت أكتب.

Exit mobile version