تحقيقات

مصانع ومصافٍ للنفط في(كواشي)تلوث البيئة وتهدد الصحة العامة

تلوث بيئي في دهوك

كاروان نجيب محمد

يحذر الناشط البيئي إدريس آسهي (50 سنة) معاون طبيب دائرة صحة قضاء سميل بمحافظة دهوك بأقليم كردستان، من مخاطر بيئية وصحية يصفها بالكبيرة مصدرها عشرات المصانع ومصافي تكرير النفط الأهلية الصغيرة في منطقة كواشي، شمالي غرب مدينة سميل(15غرب دهوك).

يقول مشيراً إلى المكان بكثير من الإستياء: “المخلفات والإنبعاثات تلوث الأرض والمياه والهواء، وتسبب الأمراض للسكان القريبين منها وحتى البعيدين الذين تصلهم آثارها عبر الهواء والمياه”. ويلفت إلى أنه وبوصفه من سكان المنطقة كذلك قام مع كثيرين غيره بمحاولة إيصال أصوات استغاثاتهم إلى الجهات الحكومية لكن”دون جدوى”.

ويضيف:”إستعنا بكل جهة يمكنها تقديم المساعدة للتخلص من التلوث الذي يحاصرنا ويهدد حياتنا، لكن لاحلول. يفكر قليلاً ثم يتابع:”جهات قضائية مختصة أوقفت عمل تلك المنشآت، لكن ذلك لم يستمر سوى لفترات قصيرة لم تتجاوز العشرة أيام، وفي كل مرة تعود لإستثناف عملها مجدداً وكأن شيئاً لم يكن”.

يستدرك وهو يهز راسه بإنفعال:”مسألة كواشي تتجاوز سلطة وقوة المحافظ والحكومة والجهات المعنية بأسرها”.

يستعين إدريس آسهي، بخبرته كناشط بيئي منذ سنوات طويلة، ليؤكد بأن المنطقة تضم”مصافي نفط تنبعث منها الغازات السامة، استولى أصحابها على الأراضي التي شيدت عليها بطرق غير قانونية، وليست لديهم أية وثائق أو تصاريح من الحكومة، حتى أن مشرف اللجنة التي شكلت في سنة 2010 رفض تخصيص منطقة صناعية في كواشي ولغاية الآن لم يوقِع على المشروع”.

ويقول أيضاً:”والبعض أنشأ مصانع تحت مسميات مزيفة، ثم تم استخدامها في وقت لاحق لأغراض أخرى” مشيراً بذلك، إلى قيام أصحاب مصافي النفط بالتحايل على القوانين والتعليمات للحصول على موافقات من جهات رسمية لكنها عن أنشطة صناعية أخرى وليست لصناعة النفط.

“ولكن ماذا ينجم عن هذا؟ “يتساءل أدريس رافعاً يديه، ثم يجيب نفسه “عاماً بعد عام، تزداد حالات الإصابة بالسرطان في كافة محافظات إقليم كوردستان، في عام 2019 وصلت الأعداد إلى 1300، لكن خلال فترة جائحة كوفيد-19، شهدت انخفاضاَ، وذلك لتوقف مختلف أنواع الأنشطة ومن بينها المعامل والمصانع”.

يقول ذلك دون أن تكون لديه معلومات مؤكدة عن اعداد حالات الإصابة بالسرطان وغيرها من الأمراض في محيط المنطقة الصناعية بمنطقة كواشي، لكنه واثق تماماً، بانها تشكل عاملاً رئيسياً لنزوح السكان منها هرباً من التلوث. “الأمر يشبه أن تكون لديك في المنزل قنينة غاز مفتوحة وعليك استنشاق غازها ليل نهار”هكذا يصف ما يواجهه سكان المنطقة.

 ويؤكد:”لو قمت بجولة صغيرة ستجد بأن الكثير من المنازل مكتوب على جدرانها الخارجية معروض للبيع، اليوم رحلت عائلة، وقبلها جاري نزح إلى مدينة زاخو، وأنا كذلك لدي نية لبيع منزلي والذهاب للعيش في مكان آخر”.

وفقاً لدائرة بلدية قضاء سميل، قسم كواشي، فأن مساحة منطقة كواشي تبلغ 2200 دونما، وتوجد فيها 175 منشأة صناعية حاصلة على الموافقات الرسمية بينها ثلاثة معامل طحين، إلى جانب 50 مصفاً صغيراً للنفط قسم منها غير مجاز بيئياً، وتقع بجوار كل ذلك قرى ومجمعات آهلة بالسكان أهمها (مرينا وسميل وباستكي).

جولة صغيرة في المنطقة الواقعة على بعد 15 كم عن شمالي غرب محافظة دهوك، تكفي لرصد تلال من النفايات التي خلفتها المصانع هناك، يقابلها جدولان من المخلفات النفطية التي تلفظها مصافي النفط، بينما تغطي السماء غمامة من دخان عوادمها، وتطغى على المكان بأسره روائح كريهة يشكو منها المواطنون في الوحدات السكنية المحيطة، وخبراء يحذرون من أن تلوث المنطقة سبب رئيس للمشاكل البيئية والصحية.

مخالفات بيئية جسيمة

المهندس محسن عبد الكريم، مدير دائرة بلدية سميل، يقول بأن منطقة كواشي تضمن مصانع للمنتجات الثقيلة كالحديد، فضلاً عن البلاستك والفلين ومنتجات أخرى متنوعة” والتي لايمكن قطعاً تواجدها داخل المدن، ولذلك خصصت لها منطقة خاصة بها في منطقة كواشي”.

وذكر بأن هذه المصانع حاصلة على الموافقات الرسمية، وأن تراخيصها نوعان”تنمية صناعية وإستثمار”وأن طلبات التراخيص ترفع عادة إلى لجنة عليا تشرف عليها إدارة محافظة دهوك، وهي التي ترسلها إلى دائرة البلدية فتقوم الأخيرة بتخصيص المساحة المناسبة لكل مصنع أو منشاة صناعية بعد الحصول على موافقة التخطيط العمراني وبعد اكتمال تلك الإجراءات يتم تصديق جميع الإجازات من قبل المحافظة.

ونوه إلى أن في حال كانت الإجازة استثمارية “يتم تحويل العقار باسم هيئة الاستثمار ويتم تنظيم عقد مع المستثمر هناك، أما إذا كانت الإجازة عن طريق التنمية الصناعية، فإن العقود تنظم في البلدية ويتم الإشراف عليها من قبل دائرة الصناعة”.

ويؤكد مدير دائرة بلدية سميل، بأن هنالك مصافٍ في منطقة كواشي تعمل بدون رخصة رسمية”متجاوز”وأن دائرته لم تمنح  أصحابها الإجازات أو نظمت لهم عقوداً.

ويضيف بمزيد من التوضيح:”في البداية تم تخصيص الأراضي لأصحابها ومنحوا إجازات لمشاريع أخرى، لكنهم تجاوزوا لاحقاً على تلك الإجازات وقاموا بتغيير صنفها دون موافقتنا، فقمنا بتوجيه إنذارات لهم ومنحناهم مدداً زمنية محددة ليعملوا بموجب الإجازات الممنوحة لهم كل حسب الصنف المخصص له، وإلا سيتم سحب الإجازة، وقد احيل بالفعل غير المتلزمون إلى المحاكم المختصة”.

معد التحقيق كان قد حصل على معلومات، تفيد بحصول إدارات عدد من المصافي على استثناءات خاصة، شرط التزامهم بالقوانين واللوائح الخاصة التي تسمح بعمل المصافي في كواشي، ورداً على ذلك أكد مدير بلدية سميل، أن “هذه المصافي غير رسمية ولا يمكن منحها إجازات من قبلها، المصافي تابعة لوزارة الثروات الطبيعية، على إداراتها الحصول على إجازاتها من هناك، وحتى الآن لم تصلنا أية إجازة بخصوصها من قبل الوزارة تلك”.

وما يدل وبنحو قاطع على تسبب المصانع ومصافي النفط في كواشي بأضرار بيئية هي الإجراءات القانونية التي أتخذتها دائرة بيئة دهوك ضد مصاف ومصانع مخالفة بيم 2019 و 2022 وفقا للحقوقي شيروان أكرم مسؤول الشعبة القانونية الذي أكد بان دائرته قامت بتغريم 34 مصفا ومصنعاً في كواشي، وأن الغرامات فرضت بحسب درجة التلوث الذي تحدثه كل منها.

وذكر بأن لجان مختصة من بيئة دهوك تقوم وبإستمرار بمتابعة مصادر التلوث سواءً كانت تابعة لشركات أم لأفراد عاديين، وأن الغرامات كانت تفرض من قبل دائرته مباشرة في بادئ الأمر، ثم أصبح ذلك منذ سنة 2022 من اختصاص محكمة الجنح، وأن دائرة بيئة دهوك تدخل في الدعاوى بصفة مشتكي.

وعن الدعاوى التي أقامتها دائرته بين سنتي 2022 و 2023 ضد المصانع ومصافي النفط في كواشي، يقول الحقوقي شيروان:”قمنا برفع 32 دعوى قضائية بصفة مشتكي عن طريق الادعاء العام في محكمة جنح سميل، وتم فرض العقوبات المالية على العديد منها وفقاً لتعليمات هيئة حماية وتحسين البيئة المرقمة (2) لسنة 2023 المعدلة، ومازالت هنالك دعاوي لم تحسم بعد”.

وفيما يتعلق بالاستثناءات، فقد أوضح أنه تم استثناء 12 مصفى من إيقاف العمل “بسبب امتثالها لتعليمات البيئة، على الرغم من أن عملها لا يتماشى تماماً مع هذه التعليمات”.

المدعي العام، حكيم عبد الواحد يونس، أشار إلى عدة كتب ومراسلات مع الجهات المعنية، بما في ذلك كتاب وجهته رئاسة الادعاء العام في دهوك إلى محكمة تحقيق قضاء سميل، تضمنت فتح التحقيق واتخاذ الإجراءات القانونية ضد (20) مصفى ومعمل لتكرير النفط، قام أصحابها بالتجاوز على أراضي الدولة واستيلائهم عليها بصورة غير قانونية في منطقة كواشي، وتتسبب بإنبعاث غازات سامة تضر بالبيئة وصحة المواطنين”.

وأكد بأن المخالفين سوف يعرضون انفسهم لعقوبات قد تشمل الحبس او الغرامة،أو كلتا العقوبتين” ووفقاً لاحكام قانون حماية وتحسين البيئة المرقم (8) لسنة 2008 والمعمول به في إقليم كوردستان – العراق، فإن الغرامات تصل الى 200 مليون دينار عراقي.

ولم يتسن لمعد التحقيق معرفة بقية التفاصيل، نظراً لكون القضايا التي فتحت ضد مصافي النفط الخام  المخالفة مازالت في طور التحقيق، غير أن مصادر قانونية ذكرت بأن تسويات ربما تحدث، من خلال تعهد أصحاب تلك المصافي بإتخاذ التدابير اللازمة لتقليل ضرر الإنبعاثات الغازية من خلال عوادم يضعونها في اعلى المشاعل، ومعالجة مخلفاتها السائلة بطرق ملائمة للبيئة.

بداية التلوث

بحسب بلدية قضاء سميل، فأن الموافقات الرسمية منحت لجعل كواشي منطقة صناعية في سنة 2005، وبعد عشر سنوات من ذلك، بدأت بالعمل الفعلي بعد أفتتاح العديد منها، أي أن قصة التلوث بدات مع مباشرتها بالعمل وطرح مخلفاتها السائلة والصلبة، ثم انضمت إليها مصافي، لتضيف مخلفاتها السائلة وانبعاثاتها الغازية غير المعالجة إلى قائمة التلوث في كواشي.

الجهات الحكومية وفي محاولة استباقية منها لتدارك مشكلة التلوث المتوقعة في كواشي، قامت بأنشاء مصنع لفرز وإنتاج السماد على مساحة (1360000م2) ، وتم تشغيله في أيار/مايو2011، لكن تبين بعد ذلك، أن مصنع فرز النفايات هذا، صار بدوره مصدرا للتلوث في كواشي !.

التدريسية الجامعية ژيان سليمان خليل تناولت هذا المشروع في دراسة لها، عنوانها (تدوير النفايات الصلبة في منطقة كواشي الصناعية-دراسة في جغرافية التلوث) نشرتها في مجلة جامعة دهوك سنة 2022، أشارت فيها إلى أن النفايات جلبت إلى المصنع من ثلاثة مصادر رئيسية “دهوك، سميل، مخيمات النازحين”بمعدل يومي بلغ850إلى 950 طناً من النفايات، إضافة إلى طن واحد ناجم عن الأنشطة في منطقة كواشي ذاتها”.

في حين أن الطاقة الإستيعابية للمصنع هي فقط ما بين 250-300 طناً”المتبقية يتم طمرها بنحو غير صحيح من الناحية البيئية، لأنها تدفن تلك النفايات في حفرة عادية وتغطيها بتربة سمكها (10سم) فقط، وغالباً يتم حرق تلك النفايات من تلقاء نفسها قبل عملية الطمر وذلك نتيجة تفاعل المواد مع بعضها فتلوث البيئة المحيطة  والتربة والمياه”.

وتوصلت في دراستها كذلك إلى أن عملية فرز النفايات في المصنع لاتتم بكفاءة عالية، وأن 50% من النفايات المفروزة لايتم الإستفادة منها:”مما يؤدي إلى تراكمها في مكب النفايات القريب من المصنع، وهذه النفايات تكون رطبة في الغالب، مما يؤدي إلى انبعاث الغازات الضارة منها مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان، والتي تزيد من تكرار وحدوث الحرائق في المكب نظراً لكون الميثان غازًا ذا احتراق ذاتي”.

كما أن كمايات كبيرة من المياه تستخدم في النفايات التي تتم معالجتها في المصنع لتصبح سماداً عضويا:”فيتم تلويث التربة بمستويات عالية من أيون النترات NO-3، تفوق احتياجات النباتات فتؤدي إلى موتها، فضلاً عن انبعاث غازات كريهة الرائحة، مثل غاز الهيدروجين الكبريتي H2S، الذي يتعرض له عمال المصنع يومياً، مما يضعهم تحت تأثير سلبي على المدى الطويل” وفقاً للدراسة.

منطقة طمر النفايات في كواشي.

وعن سبب وجود نفايات في العراء على تلة بمنطقة الكواشي، تقول الأستاذة الجامعية ژيان سليمان:”ذلك لصغر المساحة المخصصة لدفن النفايات في منطقة الكواشي، وعدم قدرتها على استيعاب كل المخلفات والنفايات التي تلقى فيها من مصنع فرز النفايات وفي هذه الحالة، إما تحرق النفايات الزائدة أو تتعرض لأشعة الشمس والحرارة، وتحرق تلقائيًا، وفي كلا الحالتين تحدث تلوثاً بيئياً”.

معد التحقيق حصل على معلومات مفادها أن دائرة بيئة دهوك كانت قد فرضت غرامة على مصنع فرز النفايات بسبب وجود النفايات المكشوفة في منطقة الطمر، لكن الأمر لم يتم معالجته على الرغم من ذلك. المهندس حسن، مختص في المجال الكيمياوي، ومسؤول عن قسم البيئة الحضارية في دائرة بيئة دهوك، ذكر بأن هنالك نوعان من مكبات النفايات (النظامي وغير النظامي)، فإذا كانت النفايات منزلية فيتم فرزها في مصنع فرز النفايات، وتدفن في المكب النظامي. والمكب الآخر غير النظامي، تدفن فيها النفايات مباشرة بدون فرز:”تخرج منها العصارة التي تذهب بدورها الى محطة المعالجة لكن وحدة المعالجة الموجودة في مصنع فرز النفايات غير مكتملة، فيها نواقص عديدة عطلت عملها”.

وعن التلوث بنحو عام في منطق كواشي، فيقول بأنه ناتج عن المخلفات التي تطرحها المعامل في كواشي بكل تصنيفاتها، سواء المرتبطة بالمشتقات النفطية ومصانع المواد الغذائية أو معامل صهر الحديد أو غيرها.

وأن هنالك بعض المعامل والمصانع لديها وحدات المعالجة (إبتدائية)، مثل “معمل الدباغة وصناعة البطاريات وغيرها، لكن لا تصل للحد المرجو اليه للمعالجة، حسب شروط البيئة أي المعالج نسبية”، أما فيما يتعلق بالإنبعاثات الغازية التي تصدرها الأنشطة الصناعية ومصافي النفط في كواشي، فيقول بأنها “تذوب مع الامطارالتي تهطل على التربة وتؤثر على مقدار الحامضية فيها، وكذلك تؤثر على المياه الجوفية”.

وفي هذا الصدد يذكر بأن بئراً ارتوازية في منطقة(مرينا) تأثرت بتلوث كواشي الصناعية “وقد تم غلقها مؤخراً من قبل دائرة الماء لمنع تسببها بأمراض للسكان”. ويشير إلى سبب عدم محاسبة المصانع والمصافي مباشرة عما تفرزه يقول المهندس حسن:”هذا لأن المصانع والمصافي ليس لديها مجار مخصصة لكل منها، ونظراً لوجود عدد كبير منها، فإن التسريبات تحدث عشوائيياً دون تحديد المصدر بشكل دقيق، لذلك لن نستطيع التعرف على المتسبب لإتخاذ الاجراءات بحقه”.

معد التحقيق حاول التواصل مع إدارات عدد من المصانع ومصافي النفط في كواشي، بشان التلوث الذي تحدثه في المنطقة والإجراءات التي يفترض انها تقوم بها لتحجيم ضرره، إلا أنه لم يتلق رداً من أي منها. كما أن قيوداً قانونية منعته من الوصول إلى حيثيات الدعاوى المقامة ضد البعض منها في المحكمة، لأنها مازالت في طور التحقيق. 

نداءات استغاثة

أبو أحمد(46سنة) عامل بناء بأجر يومي ويقطن في مجمع سكني قريب في كواشي، يعتقد بأن التلوث الذي مصدره المنطقة الصناعية القريبة من منزله، هو المسؤولة عن تفاقم مرض أبنه البالغ ثماني سنوات.

 يعبر بقلق بالغ عن ذلك بقوله:”يعاني أصلاً من مشكلة في صمام القلب، ودخان مصافي النفط والروائح الكريهة المنبعثة من مخلفاتها إضافة الى مخلفات المصانع سببت له ضيق التنفس وتفاقم حالته”.

يضع يده على جيب قميصه العلوي وعيناه على الدخان المتصاعد من عوادم المصافي القريبة:” أنفقت لغاية الآن 20 ألف دولار لمعالجته في الإقليم وخارجه،  قسم منها من مدخراتي والبقية قروض بذمتي، لكن هذا لن يكون كافياً لشفائه”.  يشير الى حيث المصافي والمصانع ويتابع مستدركا بشيء من الأسى:”لابد أن تجد الحكومة حلا للتلوث على الأرض وفي مياهنا والدخان الذي يغطينا”.

نبرة القلق في صوت أبو أحمد ومعاناته تشابه كثيرين غيره، تتداول وسائل إعلام محلية ومنصات التواصل الاجتماعي، وبنحو منتظم نداءات الإستغاثة التي يوجهونها إلى الجهات الحكومية المعنية للتدخل من أجل وقف التلوث في كواشي، ولاسيما من القرى والتجمعات السكانية بالمنطقة أو حتى الأبعد منها.

 رمضان مجيد، طبيبٌ متخصص في مجال الأمراض السرطانية، يؤكد بأن منطقة كواشي تعاني من تلوث وصفه بالشديد سواءً في التربة أو المياه أو الهواء:”يرتفع مستوى الحموضة والأملاح في مياه الأمطار التي تهطل في كواشي تحديداً”.

ويعتقد الطبيب الذي ينشط في مجال بث الوعي بخطورة التلوث البيئي وتأثيراته على الصحة العامة، من خلال بحوث ودراسات يعدها بنفسه، بأن المياه الملوثة التي تتغلغل بداخل التربة في تلك الأنحاء، يمتد تأثيرها السلبي إلى الأشجار وباقي النباتات فضلاً عن الحيوانات.

 ويضيف:”كما تهدد المياه الجوفية التي يعتمد عليها السكان بنحو كبير للحصول على المياه العذبة، فالكثير من القرى تستخدم الآبار الإرتوازية لسد حاجاتها اليومية” وهو ما يعده مؤشر قلق لإرتفاع احتمال تعرضهم للإمراض جراء ذلك.

ويلفت الطبيب رمضان، إلى أن تقديرات منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن 30% من حالات الجلطة الدماغية والقلبية والسرطان يعود سببها إلى التلوث الجوي، أي الهواء، ويحذر:” تلوث الهواء يمكن أن يسبب أمراضاً ولاسيما عندما تختلط الجزيئات الملوثة بمياه الأمطار أو بالإستنشاق وهو ما يحدث في كواشي” يقول جازماً.

هو منهمك حالياً في إعداد دراسة عن كواشي، يجري خلالها تحليات مختبرية للهواء والتربة والمياه وسيحتاج إلى بعض من الوقت لإكمالها، لكنه ينوه إلى توقعاته الأولية بأن التلوث في منطقة كواشي هو”المصدر الرئيس لإرتفاع نسبة الأمراض السرطانية في المنطقة”.

وعلى الرغم من عدم وجود احصائيات محددة بحالات الإصابة بالإمراض جراء التلوث في كواشي، إلا أن هنالك من يربطها فضلاً عن مناطق أخرى مشابهة لكواشي في إقليم كردستان بإرتفاع معدلات الإصابة بالسرطان في السنوات الأخيرة.

ووفقًا لإحصاءات رئاسة صحة دهوك، فإن أعداد حالات الإصابة المسجلة بمرض السرطان قد ارتفعت في الإقليم من 486 حالة في سنة 2013 إلى 1180 حالة في عام 2023 أي خلال عقد واحدٍ فقط، مع تسجيل أعلى مستوى للإصابات في عام 2022 والتي  بلغت 1434 حالة.

وفيما يخص قضاء سميل القريبة من مصدر التلوث في كواشي، فقد أشارت احصائيات مديرية الصحة إلى تسجيل 10 حالات فقط في سنة 2013،  إرتفعت لأكثر من ستة أضعاف خلال عشر سنوات، إذ تم تسجيل(68)حالة سنة 2023.

تلوث وإختلال النظام البيئي

الأستاذ الجامعي المتخصص بشؤون البيئة، د.نجم الدين نيروي، قال خلال جولة قام بها رفقة معد التحقيق بمنطقة كواشي، أن:” 1% فقط  من بقايا المواد العادمة في المياه الملوثة تؤثر سلبا على تركيبة ووظيفة الكائنات الحية الدقيقة في التربة ومياه الشرب، مما يمكن أن يؤدي إلى اضطرابات في توازن البيئة”.

ويقول كذلك أن :”الحد الأقصى المسموح به للأملاح الصلبة الذائبة في المياه يجب ألا يتجاوز عن 500 ملغم/لتر، إلا أنه وفقًا للبحث الذي أجريته في منطقة كواشي، وجدت أنها تتجاوز هذا الحد بست مرات، وهذا يشكل تهديدا جدياً على البيئة”. يؤكد د.نجم.

ويتابع:”هذه الزيادة في الملوثات يمكن أن تقلل من التنوع البيولوجي وتؤثر سلباً على الكائنات الحية، بما في ذلك الأسماك بما أنها تبلغ مصادر المياه، وتنعكس هذه الآثار أيضا على جودة الحيوانات الأخرى، مثل المواشي التي تعتمد على موارد المنطقة”.

ويرى بأن التوجهات الحكومية لمعالجة المياه العادمة الملوثة (المياه الناتجة عن العمليات الصناعية) غالباً ما تكون غير مبنية على أسس علمية صحيحة، على الرغم من الجهود التي تبذلها والتعليمات التي تصدرها”لكن معظم المشاريع السكنية والصناعية والمعامل لا تلتزم بها”.

ودعا إلى الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة مثل استراليا والسويد وسنغافورة في مجال المعالجة الفيزيائية والكيميائية لتحسين جودة المياه والحفاظ على البيئة.

د. مصطفى إسماعيل مصطفى،  أستاذٌ في قسم الأراضي والمياه بكلية الهندسة الزراعية بجامعة دهوك، يحذر من خطورة تلوث المياه الناتجة عن الصناعات الثقيلة في منطقة كواشي على صحة الإنسان بنحو عام وعلى الحيوانات بوجه الخصوص.

وقد توصل في دراسة له نشرها سنة 2022 في المجلة الدولية لعلوم الصحة، بعنوان “تأثير الفائض الصناعي على بيئة الأغنام في منطقة كواشي“، إلى أن ندرة الموارد المائية في هذه المنطقة، خاصة خلال فصل الصيف، تجبر الحيوانات على شرب مياه ملوثة بالنفايات والمواد الخام.

وأن انبعاثات المصانع تحتوي على:”أكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكبريت وثاني أوكسيد الكربون وأول أوكسيد الكربون وكبريتيد الهيدروجين” ومركبات عضوية متطايرة مثل “الميثان” تؤدي انتشار الأمراض التنفسية بين الأغنام، مما أدى إلى نفوق أعداد كبيرة منها كل عام.

ووفقاً لـ د.مصطفى فأن نحو عشرة آلاف رأس غنم، مصابة بأمراض مختلفة جراء  تناولها مياه الصرف الثقيلة التي تتسرب عبر (سهل منطقة سليفاني) حتى تصل إلى سد الموصل ومنطقة كواشي تقع في طريقها، كما أظهرت تحقيقات البحث أن 50% من الأغنام تعرضت للاجهاض خلال عام واحد فقط.

كما أكد الباحث بخطورة وجود عناصر خطيرة تجازوت الحدود المقررة في منظمة الصحة العالمية مثل (الكاديوم والرصاص) في دم المواشي والحليب، وكذلك في نماذج الدم للاشخاص الذين يعيشون في تلك المنطقة. مما يجعل احتمال ظهور السرطان لدى الأطفال مرتفعًا للغاية.

معد التحقيق لاحظ بان الجهات الرقابية قد فطنت لأثر تلوث كواشي على الثروة الحيوانية، لهذا فأن دائرة بيئة دهوك، تفرض غرامات على أصحاب الماشية التي ترعى في المنطقة، وهذا ما أكده الحقوقي شيروان أكرم، مسؤول الشبعة القانونية في الدائرة.

إذ قال بأن دائرته سبق وأن قامت بفرض غرامة مالية على صاحب قطيع ماشية مقدارها (8) مليون دينار عراقي(أكثر 6 ألف دولار) بسبب تواجد قطيعه بالقرب من المناطق الملوثة في كواشي.

حلول وإجراءات

المهندس دلشاد عبد الرحمن، مدير دائرة بيئة دهوك، يقول بأن دائرته تحاسب كل المتسببين بتلويث البيئة، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات أو جهات تجارية. مشدداً على أتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة واحالة المخالفين إلى القضاء.

وفيما يتعلق بجودة المياه، فيقول بأن التحرك يكون عادة استجابة لشكاوى المواطنين أو المعلومات التي تصلن عن طريق جهات رسمية مثل البلدية ودائرة الماء والمجاري، ويتم جلب عينات للتحليل في المختبر، والاعتماد على الفحصين الرئيسيين (BOD-COD)”وفي حال تجاوزت النتائج المستويات المحددة من قبل منظمة الصحة العالمية، ستتخذ المديرية الإجراءات الإدارية والقانونية بحق المخالفين”.

والأمر ينطبق كذلك على المخلفات الصلبة كالنفايات العادية او المصنعية فضلاً عن الانبعاثات الغازية، إذ يتم التحقق بشانها وتفرض الغرامات في ضوء مقدار التلوث وتتم إحالة المخالفين الى القضاء في الكثير من الحالات. 

المحامي المستشار عبد الله محمد إبراهيم، يشير إلى أحكام القانون رقم (8) لسنة 2008، الخاص بحماية وتحسين البيئة في إقليم كوردستان – العراق، يسلط الضوء على المسؤولية التقصيرية والتعويض عن الضرر. وان المادة (21) من هذا القانون تمنح المتضررين من التلوث البيئي الحق في مقاضاة الأفراد أو الجهات المسببة للضرر نتيجة للإهمال أو الأفعال الشخصية.

كما يشدد على ضرورة أن يتحمل المسؤولين عن التلوث مسؤوليتهم بتعويض المتضررين وإزالة الضرر واستعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل الحدث. وأنه في حالة الإهمال أو الامتناع عن اتخاذ الإجراءات اللازمة، يحق للجهات المعنية اتخاذ التدابير الضرورية لإزالة الضرر، مع تحمل المسؤول التكاليف والنفقات الإدارية، ومراعاة درجة خطورة المواد الملوثة وتأثير التلوث على البيئة.

لكن هنالك من يعتقد بأن المشكلة ليست في القوانين، وإنما في تطبيقها، من بين هؤلاء ناشط بيئي طلب عدم الإشارة إلى أسمه، إلى أن التلوث الذي تحدثه مصانع مصافي النفط في كواشي يصل مداه القطري إلى 22 كم.

وأن آلافا من حالات الأصابة بحساسية التنفس سجلتها الجهات الصحية في سميل والمناطق القريبة منها خلال سنة 2023 لوحدها بسبب الانبعاثات الغازية التي مصدرها مصافي النفط في كواشي. ويرى بأن الحل يكمن بوقف فوري لعمل جميع هذه المصافي دون أية استثناءات وإجبارها إما على تفكيكها أو اتخاذها الإجراءات الكفيلة بمنع ضرر إنبعاثاتها الغازية والسائلة”عوادم مانعة للتلوث في المشاعل، وحدات معالجة للمخلفات السائلة”.

وكذلك “إجبار المصانع الأخرى في المنطقة على التعامل مع نفاياتها ومخلفاتها بنحو يتوافق مع المحددات البيئية، ومراقبة عمل مصنع فرز النفايات في المنطقة، وإجبارها كذلك على التعامل وفقاً للشروط البيئية المحددة مع النفايات التي تطمرها”.

ويعتقد الناشط البيئي، أن أصحاب المصافي بوجه الخصوص لديهم نفوذ أقوى من القانون وإجراءات القضاء:”وإلا لم تحال الى المحاكم، ثم تعود لمزاولة عملها دون التزام منها بالقيام بأي شيء، صحيح أن هنالك مصاف تم وقف عملها بالفعل لحين اتخاذها التدابير اللازمة لمنع الضرر البيئي، لكن هنالك أخرى مستمرة بالعمل، وتلوث البيئة ليل نهار”.

صديق بدو(57 سنة)، موظف متقاعد، يسكن مع أفراد عائلته العشر في مجمع باستكي القريب من كواشي، يقول:”بأن  400 عائلة تسكن معنا في المجمع،  نحن نجد أنفسنا يومًا بعد يوم محاصرين برائحة الملوثات السامة التي تنبعث من مصانع الكواشي المجاورة، خاصة في فترة ما بعد المغيب، حتى صباح اليوم التالي”.

ويضيف بحدة:”لا يمكننا النوم، حتى ولو لدقائق قليلة على سطوح منازلنا في فصل الصيف”.

ويشير إلى أنه وباقي السكان يضطرون إلى غلق الأبواب والشبابيك في باستمرار بسبب الرائحة التي يصفها بالكريهة، ولاسيما في أيام الصيف الحارة”لانستطيع حتى تشغيل مبردات الهواء لأنها تسحب الهواء الملوث”.

يأخذ نفساً عميقاً ويقول بحرقة:”نحن من الفقراء ونواجه تحديات كثيرة، منها عدم استلام الرواتب الشهرية بانتظام وغيرها من المصاعب، ومنزلي لا يساوي شيئاً لأبيعه واشتري منزلاً في مكان آخر، لذا فانا مضطر لإستئجار منزل في منطقة أخرى والرحيل من هنا كما فعل آخرون غيري”.

  • أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية.
زر الذهاب إلى الأعلى