رأي

المشهد الحقيقي للحياة

نزار عبد الستار

أدركت مبكرا أن الروايات الجيدة لا تصمد في مدارات الزمن الا اذا جاءت متفردة في منطقتها

ومتينة البناء وتكويناتها اللغوية مكثفة إلى درجة الشعر. عندما نشرت روايتي الأولى “ليلة

الملاك” عام 1999 كانت الشخصية المتحركة خرافية الشكل تدعى السمارتو: انسان مجنح له

 رأس صقر، ويحمل دلوا نذريا فيه ماء يقدر على تحقيق المعجزات. كان علي كتابة هذه

الرواية بتكثيف لغوي يتقمص السحر، وأن تكون الاستعارات موازية لغرائب الاحداث، والسرد عجائبي.

كتبت إلى الان سبع روايات وأعتقد أن كل عمل يمهد للذي يليه. نحن لا نكتسب المهارة من عمل

 واحد كما أن كل رواية تكتب هي ذروة وعي كاتبها وخلاصة هندسته العقلية ويمكن للرواية الأخيرة

 أن تستنفد كل سوائل الدماغ الحية وحتى اللياقة البدنية. أعتقد أن أفضل طريقة لاستخلاص

 الخبرة أن تكون الرواية القادمة مستندة على الوهج اللغوي المتحقق من الرواية التي قبلها.

إن أهم ما يجعل الكتابة مستمرة هو التحفيز الذهني الدائم. المناطق الجديدة التي يمكن أن

تذهب إليها الرواية القادمة تكون مخبأة في مستودع الذكاء. عندما انتهي من كتابة رواية

 اتمتع باستراحة لمدة اسبوعين وبعدها أشرع في التحضير للرواية التي تليها مستفيدا من النشاط

 الذهني القوي الذي اوقده العمل السابق.

في روايتي الثانية “الأمريكان في بيتي” التي صدرت عام 2011 كان علي الخروج بعمل مغاير.

كل الروايات العراقية التي ظهرت بعد 2003 كانت تسجيلية وغالبية الذين تصدوا لهذه المهمة

 كانوا خارج العراق ولا أحد منهم شاهد بعينيه جنديا اميركيا يتجول في الشوارع. واغلب هذه

الروايات تقدم مشهد وصول الجيش الأميركي إلى ساحة الفردوس وعملية اسقاط تمثال صدام حسين.

كل المعلومات التي أوردتها تلك الروايات غير واقعية ومستمدة من الأفلام الأميركية وتقارير وكالات

الأنباء. فكرة رواية “الأمريكان في بيتي” جاءت عندما اقتحمت مجموعة من الجنود الأميركان بيت العائلة

 في مدينة الموصل واحتلوا غرفتي في الطابق الثاني والتي تحتوي على مكتبتي المكونة من 5000

كتاب بحجة مراقبة الشارع العام. خرج الأميركان من البيت فجرا بعد عبثهم بأغراضي وتمزيقهم نسخة

من رواية “موبي ديك” للكاتب الأميركي هرمان ملفل. الحافز الاخر الأكثر توجيها لمسار هذه الرواية أن

 الجيش الأميركي مع دخوله مدينة الموصل ذهب إلى مكتبة الأوقاف وصادر 1000 مخطوطة عربية

 وسيريانية لم يسبق أن حققها أحد وكانت مخزنة بطريقة سرية باعتبارها الكنز الأكبر لمدينة الموصل.

 رواية “الأمريكان في بيتي” ركزت على انهيار المدنية ورأت في الاحتلال الأميركي صراعا حضاريا يستدعي

 النهوض مجددا وأن الثقافة هي الوسيلة المناسبة لتنظيف البلاد.

كل رواية هي منطقة خيالية جديدة لا يتوقعها القاريء مني. ربما الحياة التي عشتها على هذه الشاكلة.

 رواية “يوليانا” الصادرة ببيروت عام 2016 كانت تتحدث عن بلدة كرمليس ومزار القديسة بربارة وخادمتها

 يوليانا في السهل الشرقي المسيحي لمدينة الموصل. هذه الرواية تطلبت جهدا بالغا وشجاعة فكرية. بقيت

 “يوليانا” مفتوحة قرابة 17 سنة إلى ان قامت داعش باحتلال مدينة الموصل وطرد المسيحيين منها

 بعد رفضهم دفع الجزية. عندها أجبرت نفسي على الانتهاء من هذه الرواية وقد صدرت عند تحرير بلدة

كرمليس المسيحية من داعش.

أهمية العمل الروائي متأتية من درجة تماسك عناصره وقوته الخيالية ومعرفياته الاجتهادية. في “يوليانا”

اوجدت الاختلاق التاريخي والسيري مع استعادة السرد وتقنيات الحبكة وهي اجتهادات في اشتغالات

مابعد الحداثة وقد طورت هذه التقنيات في رواية ترتر الصادرة سنة 2018 وكذلك في روايتي

 “مسيو داك “2020 و”الأدميرال لا يحب الشاي” 2023.

لا يمكن أبدا نقل قصة حقيقية بدون اضافات اختلاقية. هذا شيء يتطلبه التوصيل واعادة الصياغة

 وتحين المزاج السليم للتلقي. إن أهم مافعلته تلك الروايات السبع هو التستر بالتاريخ ومحاولة التواجد

 في الزمن الماضي من خلال اختلاق القصص. في رواية “ترتر”   كنت مع السلطان العثماني

 عبد الحميد الثاني والامبراطور الألماني فيلهام الثاني وفكرة مد خط سكة حديد من برلين إلى بغداد.

 هذا المشهد التاريخي جعلني اختلق قصة آينور هانز الجاسوسة التي ارسلت للموصل كي تمهد

لدخول الصناعيين الألمان. إنها سيرة مختلقة تماما لما يمكن اصلاحه من الماضي. بهذه الطريقة كتبت

 رواية “مسيو داك” التي جاءت مختلفة وتتحدث عن الحب في حسيته الطاغية.

اعتقد أننا بروايات أقل مما تصدره دور النشر الآن يمكن لنا ارجاع الانبهار للقراءة. لايمكن للرواية

 مسايرة الضحالة أو ادامة التسطح الذوقي بل عليها استعادة الوهج الخلاق. فن الرواية يحتاج إلى

 خيال جامح مع رغبة ملحة في تصديق الكذبة السردية وهذا لا يتحقق إلا بمهارة روائية. لقد اثبت

علم الأركيولوجيا مدى الزيف الحضاري الذي عشنا فيه لقرون كثيرة وكيف أن علم الآثار نفى كل

التلفيق الذي جرى طوال الف سنة. هذا الأمر لايمكن اجتثاثه لأن هذه هي طبيعة الانسان الذي يروي

7 القصص اعتمادا على الخيال.

في رواية “الأدميرال لا يحب الشاي” ذهبت إلى الهند وتتبعت شركة الهند الشرقية البريطانية التي تاجرت

 بكل شيء واسست رفاهية القارة الأوروبية من خلال الحروب وزراعة الأفيون وارتكاب المجازر. ولكن

 الذي عملت على اختلاقه هو شخصية الأدميرال ونفيه من كلكتا إلى البصرة ومحاولته ادخال تجارة الشاي

 إلى العراق. هذه الشخصية الاشكالية متعددة الهويات تكشف عن صراعات لا يعرف خيرها من شرها لكنها

 مع هذا تمثل روح عصرنا الحالي الذي يتاجر بالانسان ويمسخه إلى مستهلك شره.

في الروايات المصنوعة بشكل متقن يمكن كتابة المشهد الحقيقي للحياة. نحن لا نملك ازاء هذا الوجود

 المخيف إلا رواية خرافاتنا والعودة بخيالنا لمعاصرة الابطال الذين نعشقهم. التدوينات التي تقترب من

 الخواطر لا يصح تجنيسها كرواية.

اقرأ أيضاً: ثلاثون ثانية لإدخالي الجنة !

Back to top button