أدب
أخر الأخبار

تمظهرات السير ذاتي وأنساق الحدث في رواية ديسفيرال لنوزت شمدين

رواية ديسفيرال لنوزت شمدين

د. م محمد مطلك صالح

يستعين الكاتب في روايته بخياله ويطلق عنانه كما يحلو له، إذ نراه يطلع على الماضي ولكن في صورة الحاضر، وإن كانت السيرة تحكي عن مضي الزمن، ولكن العلاقة تبقى بين كاتب السيرة وموضوعه لا سيّما إذا هو اختاره بنفسه؛ فالسيرة لا تخلو من تناول العواطف التي يصدح عنها الإبداع الأدبي.والكاتب نوزت شمدين يشعر بال حاجة إلى كتابة جزء من سيرة حياته، إذ قطع أكثر من ثلثي حياته وهو يمتلك الموهبة. (ديسفيرال) رواية للكاتب نوزت شمدين التي صدرت عن دار سطور، فعرضت في هذا البحث السيرة الذاتية ونظراً لما تعد السيرة الذاتية جنسا يشابك مع الرواية فقد حاولت التطرق بشكل موجز عن تعريف السيرة الذاتية وإشكالية المصطلح وكيفية توظيف السرد لهذا الجنس الأدبي .

في مفهوم السيرة الذاتية:

مما لا شك فيه إنَّ الأحداث التي شهدتها الساحة العربية من اضطرابات وأطماع استعمارية وأحداثاً أخرى أيقظت ونمّت الشعور بالذات حتى جعلت الأدباء يتسابقون على ذكر سيرهم الذاتية، فغدت السيرة الذاتية مستودع لعصارة شيخوختهم. فالسيرة الذاتية ما هي إلا فسيفساء سردية تحكي حياة أشخاص عن طريق تجربة حياتية معاشة ينقلها السارد من الحوادث ربما تعرّض لها ويسجلها إلى وقائع مكتوبة، بعد فترة من الزمن وقد يضفي عليها من التخيل أحيانًا أخرى… ومع ذلك فإن السيرة الذاتية لم تكن جنسًا عند العرب حتى القرن العشرين، وقد تدخل في إنشائها دوافع متعددة، في مقدمتها الدوافع الاجتماعية أو الدينية، لذا حاولت في هذا البحث أن أقف على السيرة الذاتية في رواية ديسفيرال بصفتها الظاهرة الأبرز، إذ كان نوزت شمدين مسجّلاً لكلِّ حادثة صادفته في حياته. وهناك أكثر من تعريف للسيرة الذاتية،

إذ وصف ليتون ستارشي فن السيرة قال: “إنه أدق وأدق فنون الكتابة”  وهو ما جعل الأمور تختلط لدى المرء للوصول إلى تعريف متفق عليه لهذا الجنس الأدبي، وهذا ناتج من صعوبة ماهية الجنس بسببين “الأول يتعلق بطبيعة هذا الجنس الزئبقية، والثاني يتعلق بتنوع المقاربات التي طبقها عليها الدارسون والنقاد”، وبما أن هذا الجنس الأدبي يقبع صاحبه تحت القناع التخييلي، وهذا يتطلب جهداً وجسارة لإزالة بعض المحرمات قد يكون تقليديا، إذ”تنتمي السيرة الذاتية إلى نوع من السرد الروائي”، ونظرا لاستخدامات السيرة الذاتية لا سيّما في النقد الأدبي وغيرها فقد حذر (جورج مش) المؤرخ الكبير، إذ عدَّ السيرة الذاتية من أكثر الأجناس صعوبة في التعريف وذلك “لأن حدوده أكثر مرونة وأقل وضوحا في ما يتعلق بالشكل من الأجناس الأدبية المألوفة مثل الشعر الغنائي أو الملحمة__ أو الدراما، وأمّا فيليب لوجون فيعرف السيرة الذاتية بأنها”حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته”. وهذا ما جعله مترددا في التعريف، ويذكر بأنه وصف لحياة أديب، أو تاريخي، أو مهما كانت مكانته بواسطة الشخص نفسه.ولعله يقترب أو يتشابه مع التعريف الآتي:”بأنها الرواية النثرية التي يروي فيها شخص ما قصة حياته بعد مضي فترة من الزمن، مسلطاً الضوء على حياته الشخصية، وخاصة على تاريخ تكوين شخصيته”. ولكن هل في كثرة التعريفات للسيرة الذاتية تنهي الجدل أو تضع الحل المشكلة التعددية في التعريف، وباختصار فالسيرة الذاتية ))حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصورة خاصة” ولا يدخل مع الفنون الأخرى ويصعب التمييز أحيانًا “وهل يمكن أن نعتبر السيرة الذاتية جنسًا أدبيًا مستقلاً وقائمًا بذاته”. وبالتالي يقودنا إلى صعوبة التمييز لا سيّما بين المذكرات والاعترافات وقصيدة السيرة الذاتية. وهذا يأخذنا إلى نتاج أو كتابة عدد معروف من السيرة الذاتية في زمن تاريخي معروف أيضًا وهذا يكون موافقًا لتعريف بعض السير الذاتية.فالسيرة الذاتية شكل من أشكال السرد الاسترجاعي ينقل الكاتب سيرته الكاملة أو بعض منها ضمن أحداث عمله الروائي من خلال شخصية من شخصيات عمله الفني باستعمال مجموعة من الضمائر ويتسيدها (نا) إذ يتقنّع الكاتب خلف شخصية من شخصيات عمله السردي مستعيناً بكلِّّ ما أُتيح له ما آليات سردية .

السيرة الذاتية عربيًا:ثلما اختلف الدارسون الغربيون في تعريف السيرة الذاتية نجد نظ ا رئهم العرب يختلفون في ذلك فكانت ثلاثة :

الأول: الهروب من التعريف كليًا.

الثاني: التعامل مع التعريف بطريقة اشتراطية .

الثالث: محاولة ايجاد تعريف معين.

وسنكتفي بذكر الموقف الثالث فتمثله د. رشيدة مهران الذي تعرّف السير الذاتية كما يلي “أن يكتب إنسان تاريخ حياته مسجلاً حوادثها ووقائعها المؤثرة في سير الحياة متابعًا تطورها الطبيعي من الطفولة إلى الشباب ثم الكهولة” ، وهذا التعريف يتطابق مع التعاريف التي صاغها الدارسون الغربيون، إذ إن الكثير مما وضعه الكتّاب في سيرهم الذاتية يبدو لنا قصة لآثارهم أكثر ما هو قصّة لحياتهم إن لم يقل إنّها قصة آثار أكثر مما هي قصّة حياة.

إشكالية المصطلح: هناك إشكالية في وضع حدود ثابتة للتعريف، وتتأتّى كلّ الإشكاليات من حداثة هذا الجنس الأدبي وتطوره وعلاقته باليوميات وغيرها، إذ ان هناك اختلاف أو عدم الاتفاق على تحديد المصطلح أما عربيًا، فالنقاد والدارسون العرب استخدموا مصطلح (السيرة) و(الترجمة) موصوفين بكلمة (شخصية) أو بكلمة(ذاتية) للإشارة إلى هذا الجنس الأدبي فهذان المصطلحان قد وردا عن العرب قديمًا، لكن الآن لدينا مصطلحات سيرة ذاتية وترجمة ذاتية، أو شخصية ذاتية. فـ (لفظة سيرة) تعني السنة( أو)الطريقة( أو )الهيئة. ولم تأخذ معناها الاصطلاحي “سيرة حياة إلا عندما استخدمت سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم السيرة النبويةثم بعد ذلك ذكرت سيرة غيره من رجال”إذ ظهرت سيرة أحمد بن طولون لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية. ثم تتابعت السير بعدها ولكن مصطلح السيرة والترجمة ليس ثمة فرق واضح بينهما فقد”كانت تستخدمان للدلالة على سيرة الحياة استخدامًا تبادليًا أي أن إحداهما كثيرًا ما تحل محل الأخرى من دون وجود أي فرق في الدلالة أمّا الفرق الذي يذكره بعض الدارسين من أن مصطلح السيرة يطلق على سيرة الحياة الطويلة ومصطلح الترجمة يطلق على الحياة القصيرة. ولأن هذا التعريف سطحي لا يقف أمام أدنى تمحيص،”فالمؤرخون والمترجمون من أمثال الذهبي والسخاوي يستخدمون هذين المصطلحين استخدامًا تبادليًا لتعيين السيرة بغض النظر عن طولها وحتى حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)وهي طويلة كما نعلم فقد عرفت بالترجمة النبوية، وكلَّ ما يستطيع كاتب السيرة أن يفعله هو أن يمتص في ادراكه الواعي هذه الوثائق التي تصبح بديلاً لهذا الوعي الذي اختفى لحين ما، وبعبارة أخرى نقول:”إن كاتب السيرة الحي والذي يربط بين الأشياء ويتذكرها يحاول أنْ يعيد إلى هذه المواد الحياة بعد أن ولّت عنها الحي اة(() 16 (. وهذا ما يجعل الحكم على السيرة الذاتية أن تقع أحداثها ضمن نطاق الماضي، فيقوم الكاتب بإف ا رغ ونقل ما يتذكر.و))ما السيرة في الواقع إلا إعادة اخراج أو اب ا رز ما تجمع في عقل المؤرخ أو كاتب السيرة من مواد لا حياة فيها، عن طريق الكلمات في إطار أدبي أو شبه علمي وهكذا يصبح عقل الكاتب هو الذي يرشده والذي يستطيع أن يضع الحقائق عارية كما يفهمها.يقول شوقي ضيف:”ونمضي في القرن العشرين، فنجد كثيرين يترجمون لأنفسهم لا مصر وحدها ، بل في بلدان العلم العربي المختلفة”. فكثير من الكتاب ترجموا لأنفسهم فمنهم من كتب على سبيل المثال تجربتي مع الشعر أو تجربتي مع الرواية وغيرها.

الرواية والسيرة ذاتية: يشير عنوان الرواية ديسفيرال إلى نوع من الدواء يستخدم لعلاج التسمم المفاجئ أثناء عمليات نقل الدم لدى الأطفال والبالغين ولا يخلو من حيث دلالته إلى أحداث وقعت على أرض الواقع، فهو البؤرة التي تتمحور حولها الأحداث فضلاً عن الوقائع التي تؤثر في صياغة التشكيل الحكائي للعمل الأدبي، فمقصدية الكاتب هي العامل الحاسم في تكوين هوية النص وتحديده و”ميثاق السيرة الذاتية

هو عقد يبرمه الكاتب مع قارئه عندما يعلن الكاتب في نصه بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عن قصه لكتابته سيرته الذاتية”.

ويوظف بعض كتّاب الرواية تقنيات السيرة الذاتية السردية وأساليبها”مثل ضمير المتكلم، والسرد الكرنولجي المستقيم للوقائع والأحداث والاسترجاع…” ، وهذا ما يجعل رواياتهم تفلت من رحم السيرة فقد يكون الأديب صادقًا حقيقيًا فالالت ا زم بالأمانة لا بدَّ منه لإبراز الحقيقة مهما كانت تكلفتها. يقول الروائي نوزت شمدين:” خلال عملية نقل الدم لجابر في المستشفى، تخلّى سليم في دورة المياه عن تماسكه الذي أظهره أمام زاهدة. فأجهش بالبكاء”. ينقل ويوثق الكاتب جزءا من حياته بقصة سردية بسيطة بالإشارة إلى عملية نقل الدم، وما تعرض له سليم في دورة المياه، وكيف فقد تماسكه، لينقل المشهد إلى حزن بسبب المرض.ثم يقول:”نتائج التحليلات المختبرية والفحوصات السريرية تؤكد وبنحو قاطع إصابة ابنك بمرض فقر دم البحر المتوسط الذي يُعرف بالثلاسيميا”، ينقلنا الكاتب إلى مشهد أكثر حزنا وهو ظهور نتائج التحليلات المختبرية التي تؤكد إصابة الابن بمرض الثلاسيميا ويضعنا بصورة مفصلة عن توثيق سيرة الابن وحالته الصحية، يقول الكاتب:”أنتم محظوظون لأن هذا الدواء واسمه ديسفيرال قد وصل البلاد منذ فترة قصيرة جداً يسميه بعض الزملاء بالمغناطيس لأنه يرتبط بالحديد ويطرحه عبر البول”. ينقل الروائي مرحلة من مرتحل وصول العلاج وعن تسميته، إذ يظهر الحدث الانساني وما يعانيه من أمراض. يقول الكاتب:”لم يكتف الثلاسيميا بتعذيب ابني والعبث بجسده فقط بل اضطرني للمشاركة في تعذيبه وتشويهه بإبرة الدواء”. فالسارد هنا يدون السيرة الذاتية وحالته المرضية بحذافيرها فهو يشخص أحداثًا حقيقية وقعت مع ابنه، يقول:”لا أذكر أول مرة غرزت فيها إبرة بجلدي، فكلّ مرة بالنسبة لي هي الأولى والشعور ذاته لا يتغير، وخزة في الجلد والقلب بالوقت عينه. لسنوات طويلة وجسمي كُلُه مباحٌ لجوع الإبر”. يعرض السارد الأحداث الحقيقية التي تعرض لها وهي إصابته بالمرض وكم غرزت فيه الإبر، إذ ينقل معاناته وتحمله لسنوات طويلة، يحمل هذا المقطع دلالة وأبعاد نفسية يكتبها وهو بين أمل ضعيف وصعوبة الظروف .

“أزاح الاحتلال الأمريكي سِتار الحصار الاقتصادي السميك الذي كان مفروضاً على البلاد لزمن طويل وفك لقيود النظام المنهار عن المجتمع، كاشفاً جوع شعبي لأي شيء يأتي من خلف الحدود”. ينقل الروائي لنا حدثا سياسياً وقع وهو إشارة للاحتلال الأمريكي والحصار الذي تعرض له العراق وقتئذ، ويستمر السرد عبر استطرادات، وهي مجرد ذكريات ولا تؤثر في فعل السرد بين ترتيب الأحداث كما عاشها ورتبها لينقلها لقارئه. “في سنوات الدراسة الابتدائية الأربع الأولى لم أكن أبالي كثيرا بوقاحة التلاميذ وقلّة أدبهم ولا للفارق الكبير بين جسدي الهزيل المتعب وأجسادهم المعافاة وحركاتهم الشيطانية السريعة” ينقل الروائي سيرته في طفولته وعدم مبالاته من وقاحة التلاميذ، وهو بجسد هزيل مريض متعب ويقارنه بأجسادهم القوية .”في الصف الخامس، تجنب بعضهم الإقتراب مني، وتحولت سُخريتهم القديمة إلى اشمئزاز وأحياناً إلى حُزن لأنهم علموا من ذويهم بأن أصحاب الجلود الضفدعية لا يعمرون طويلاً”. وينقل الروائي في شكل مشاهد وهو وصوله إلى الصف الخامس، وابتعاد التلاميذ عنه وسخريتهم منه وحزن البعض لمعرفتهم من ذويهم بأن المرضى بهذا النوع من المرض لا يشفون ولا يعمرون طويلا. ” حتى الديسفيرال الذي هو علاجه الدوائي الوحيد أصبح بمرور الأيام يتسبب له بمعاناة تظهر غثياناً وحمى وتورماً في الأنف والعين واللسان والحلق وإسهالاً ومغصاً وصفيراً عند التنفس واحتقاناً حول مكان الإبر”. ينقل الروائي حجم المعاناة التي يتعرض لها مريض الثلاسيميا فدواء الديسفيرال لم يعد علاجا شاف بل أصبح بمرور الأيام يحدث انتفاخا وألما .

الحدث السير ذاتي في رواية ديسفيرال:

تشكل أنساق الحدث الركن الأساس والعمود الفقري لأي عمل روائي ولكنها تختلف من رواية لأخرى وقد تمزج الرواية لأكثر من نسق. بعد ذكر تعريف السيرة الذاتية واشكالية المصطلح لا بدَّ أن نقف على الحدث وما له من أهمية، بوصفه عنص اً ر مهمًا تقوم عليه عناصر النص، إذ يشكل الحدث العنصر المهيمن في تكوين السيرة الذاتية لرواية ديسفيرال، فأفاد الكاتب في روايته من الأحداث، والحدث”مجموعة من

الوقائع الجزئية مرتبطة ومنظمة على نحوٍ خاص”، لكن __________هذه الأحداث والوقائع لا تبقى كما هي بل ينقي منها الكاتب ما يريده ثم يغطيها من مخزونه الثقافي، وربطه بالزمن، وإذا كان الحدث ينطلق من الواقع، فإن الحدث في العمل الفني ليس كالحدث في الذي نشاهده ونعيشه في الواقع، وللحدث بداية ووسط ونهاية، فالبداية تمثل مرحلة من م ا رحل الحدث، يحتم وجودها أن يتبعها شيء آخر، فهي شيء يترتب على حدوثه شيء آخر، كما أن وجودها يفرض عدم وجود شيء يسبقها، وقد استخدم الكاتب عدة أنساق لبناء الحدث في روايته منها:

نسق البناء المتتابع:

يعد نسق البناء المتتابع نسقاً قديماً، وهو من الأنساق التي هيمنت مدة طويلة على فن القص ولا يختلف نسق البناء المتتابع في الرواية عنه في السيرة الذاتية، والكاتب يحرص على خلو سرده من الثغرات”لأن فقدان شرط التعاقب الزمني يربك العمل، وعليه يجب أن تصاغ هذه الأنساق بصورة فنية تتسم بالوحدة”، ويمكن تعريف نسق البناء المتتابع بأنه سرد الحدث فيه “من منطقة محددة، ويتابع وصولاً إلى نهاية معينة، دون ارتداد أو عودة إلى الخلف”. وهو”تتابع الوقائع في الزمان” ، أو تسير الأحداث المنتقاة “وفق ترتيب محكم وتطور متنام، يسير بالقارئ قُدُمًا بإتجاه الغاية التي وضعها دون ثغرات أو قفزات، لأن خرق شرط التعاقب الزمني يحول عمله إلى..إصداء… وعليه يجب أن تصاغ بصورة فنية مترابطة تتسم بالوحدة والاتساق”

ومن أهم خصائص البناء المتتابع:

– توالي سرد الأحداث الواحد تلو الآخر مع وجود خيط رابط بينهما- التركيز على سرد الوقائع حسب تريبها الزمني، أي دون تقديم أو تأخير.

ينقل الكاتب الأحداث ويستمر في الحفاظ على تسلسلها المنطقي من دون الخروج عن التتابع الزمني فالأحداث مضت بشكل طبيعي يقول الروائي:”ما أن أعلنت القابلة عفاف تحقق نبوءتها وأن المولود المنتظر ذكر حتى رفع سليم المترقب في الخارج يديه إلى الأعلى ثم هبط بهما مشيراً نحو حشد من الجيران”.

يتمظهر شكل السير ذاتي عبر سرد عن طريق ضمير المتكلم، إذ يتحرك ضمن محيط مكاني وزماني مفتوح وهذا يتيح للسارد الحركة في الكتابة فيطلق عنانه بحرية دون تقييد يفرض عليه ويستطيع الروائي أن ينقل أو يعرض أدق التفاصيل، وهذا ما يتضح في الجمل الأتية(لم يكتف الثلاسيميا بتعذيب ابني..،لا أذكر أول مرة غرزت فيها إبرة بجلدي..، لم تكن أمي تفهم كثيرا من الأشياء)، إذ ينقل الروائي التفصيل المتقن والمتتابع وبحياكة متقنة.

نسق المتداخل:

في هذا النسق لا يلتزم الكاتب بالترتيب التسلسلي للأحداث مثلما وقعت، فيتدخل هو ليعيد ترتيبها مثلما يريد ف”تتداخل الأحداث فيه دون إهتمام بتسلسل الزمان…، حيث تتقاطع الأحداث، وتتداخل، دون ضوابط منطقية، وتقدم دون اهتمام بتواليها، وإنما بكيفية وقوعها”.

فالمؤلف يحيد عن ترتيب الزمن”تجناً لسلطة الزمن الضاغطة من جهة، وخوفاً من خيانة الذاكرة من جهة أخرى” وهو من الأنساق التي يعتمد عليه الكاتب في عرض قصته لسد الفراغ في عمله الروائي ودفع الملل والتنوع ومن أمثلته: يقول:”فقدت أمي المسكينة توازنها وسقطت متدحرجة على السلم في بيتها ليُكسر حوضها وتعيش المتبقي من حياتها دون استخدام لرجليها”، يحاول الروائي أن يدعم سرده بحضور روائي معززاً مصداقيته في السير ذاتي، ونلحظ التداخل في السرد ليقوم بتدعيم وتحديد خصائص انساق سرده من دون إشارة إلى الزمن للوصول إلى مصداقية أكثر قبولاً وهذا يتضح في بداية الجملة الأولى”ما أن أعلنت القا بلة عفاف تحقق وأن المولود ذكرٌ…” ويتعزز حضور الأنا الطاغي في السرد السيري(هززت أ رسي)ويظهر دور المرأة بالمقابل فعن طريق السرد بـ(الأنا)تظهر حركة المرأة وما يجري حولها،”أخيراً ولد جابر. استقبل بالدفوف والأهازيج والأناشيد منانحاً والديه ربيع 1997 فرحة متأخرة لكنها لم تمكث طويلا” وتحاول الذات بسرد سيري كلي العلم، إذ يبدأ(أخيراً ولد جابر…) إذ يجعل من شخصية جابر المحرك الرئيس لجسد الرواية منذ البدء حتى منتهاها، ويحاول الروائي التلاعب بالسرد وما له صلة بالسير ذاتية في توجيه ونقل رسالة في معنى المقطع الآتي. وبعد كل هذه الأحداث المتسارعة والمكثفة يأتي الروائي بحدث إذ يقول:”طوقت قوات أمنية الحي بأكمله صباح يوم الثلاثاء وشرعت بحملة تفتيش. تحدث الجيران عن مقتل أيوب البقال على أيدي مجموعة من مسلحين ملثمين، اقتحموا منزله ليلاً واحتجزوا أفراد عائلته في الحمام..”

يحاول الروائي جاهداً توضيح شيء يخفيه في داخله وهو حساسية الأمور وضيقها، وهذا اعتراف شخصي سيري تاريخي لتأكيد مصداقية عمله الروائي، ينقل الروائي المكان الذي تظهر فيه قوة عسكرية، فظهور المكان بهذا الشكل يغذي معطيات الحدث لينعكس صداه على الذات الساردة، لكنه لا يظهر في هذا المقطع أي تسلسل للأحداث، فلم يظهر الزمن الذي وقعت به الأحداث.

نسق التضمين:

يتضمن السرد في نسق البناء المتضمن ب” إدخال قصة في قصة أخرى” ومن أمثلته”أحاله الصوت فوراً إلى الجثث التي شاهدها أو بقاياها في شوارع المدينة خلال الأشهر المنصرمة. وإعلانات الموت الشارحة لأسباب قطع الرؤوس أو ثقب الأجساد بالرصاص أو نسفها بالقنابل” ، وفي هذا المقطع من الرواية نجد إن الكاتب ضمّن قصته قصة فرعية من القصة الأم، ومن أمثلته: “في تلك الليلة الراعدة بعد شهر من مقتله وحدادي المتواصل عليه ظهر وليد. مشى صوبي مطلقاً تلك الضحكة الشريرة والمشاغبة التي اعتاد على استقبالي بها ووقف أمامي مباشرة من دون عكازيه”، يظهر في هذا المقطع النتيجة التي وصل إليها في تلك الليلة المرعبة وما آلت إليه الأمور، فهو يذكر قصة فرعية ضمن روايته .

نسق البناء الدائري:

يدخل نسق البناء الدائري في الأعمال الروائية، إذ يقوم الكاتب بتقديم أحداث تبدأ من النهاية أي أن”الأحداث تبدأ من نقطة ما ثم تعود في النهاية إلى النقطة نفسها التي بدأت منها” إذ يفقد الزمن تسلسله في هذا النسق من الأحداث. ومن أمثلته :”في مدخل الجامع كان هنالك ملثمان يحملان كيسين بلاستيكيين مليئين بالأوراق ينتظران خروج المصلين. تعمد أبي الإبطاء في المشي وما أن تشكلت حولهما مجموعتان من الفضوليين حتى جرَّني من يدي واجتزنا مسرعين الرصيف الموازي للجامع وعند عطفة الشارع المؤدي إلى بيتنا سمعنا صوتاً من الخلف يأمرنا بالتوقف” 49 (وفي هذا المقطع تظهر فيه الأحداث بشكل دائري، إذ ينقل الأحداث ذاتها من وجهة الخاصة، ويقدمها بطريقة مختلفة ليسهم في توصيل الحدث .

الخاتمة:

تعد السيرة الذاتية من الأجناس المهمة، لا سيّما الروائية منها، وبرزت في رواية الكاتب نوزت شمدين، فقد استطاع الكاتب استخدام ضمائر المتكلم والمخاطب، وحتى الغائب لكن ضمير المتكلم كان هو السارد، ولم يقيده بالخاص بل وظفه توظيفًا عامًا، فتحولت أنا المفرد إلى المجموع، ليكون أكثر تشويقًا، وتنقله بين الضمائر المؤنثة والمذكرة بحكم المعنى المقصود ومن أجل لفت انتباه وشد القارئ إلى نصه الروائي.تتخذ رواية ديسفيرال من السيرة الذاتية موضوعًا لها، إذ يستخدم الكاتب سردًا أشبه بالقصة أو الحكاية القصيرة، إن هذه الرواية وإن كانت في السيرة الذاتية إلّا إن كاتبها أراد أن يكتب سيرة من حيث جعل الأحداث تمر بمرحلتين عبر حضور شخصيته ومرورها على الأحداث في زمن يرى فيها شهادة شخصية خاصة له من خلال الأحداث التي مر بها .يهدف إلى تسليط الضوء على قضية إنسانية تعكس هموم الناس في الصراع من أجل البقاء، إذ يستمد الروائي حكايته من الواقع يضاف إليها وحي خيال الروائي وقد عكست الشخصيات في الرواية الواقع من خلال توظيفها وحركة أحداثها التي ارتبطت بتلك المرحلة.يختفي الشاعر خلف شخصياته فكان شاهداً على تلك الأحداث.

فالشخصيات تتداخل أحياناً بين الحقيقة والخيال لتتحدث كل شخصية عمّا يدور بداخلها من هموم وأح ا زن وخسائر وه ا زئم انهكت الأجساد.

تحمل الرواية أبعاداً تنطلق من تتبع الشخصية منذ ولادتها مرو ا رً بمرضها وصولاً إلى ما آلت إليها لأوضاع مرضية صعبة فالروائي وظف الجسد وتعرضه لمرض الثلاسيميا ليصل إلى تحقيق الهدف المنشود وهو نقل صورة لحالة الأمة وفهم الواقع مستعيناً بمرجعياته الثقافية المتعددة.

نشر في مجلة الجامعة العراقية العدد – 59 ج 1.

زر الذهاب إلى الأعلى