(ديسفيرال)المعرفة والاحالات السردية
اسماعيل ابراهيم عبد
ان الاحالة السردية المادية اقرب إلى الارشفة إذا أُخذت بالمعنى التداولي،
لكنها ستكون اسهاماً فاعلاً في اعلاء شأن سرد (القيم) ان تضامنت مع منطق
العلم وبيئته، وانها ستصير مصدر خلق آليات اشتغال ديناميكية , سواء كانت
بنية دلالية عميقة ، أو بنية لغة طبيعية ، ذلك سيؤدي إلى تواصل قرائي بين
الآلة (الاداة العلمية التقنية)، والعقل (الفاعل) الذي يقرّب الاختصاصات
نحو نموذجها المشترك (الفهم) للعلم والأدب .
ستضم كشوفات الفهم آليات (سردية مختزلة) من حيث المساحة المعدة
للعرض الكتابي ، الى الشيئيات الصورية والصوتية . مما يعني زيادة حيوية
المعرفة والسرد معاً.
وبما يخص رواية (ديسفيرال للكاتب نوزت شمدين)([1]) , فأن أدبيتها تتنوع
بحقولها المعرفية والاجتماعية لذا سنتوسم بها احتيازها على قدر مهم من
الكفاءة الاشارية , وكفاءات اخرى , سنتسلسل بها على النحو الآتي :
أولاً : الكفاءة الاشارية
هي كفاءة العلامات والاشارات في خلق دلالات تنشط قوى التأويل عبر :
أ ـ فاعل الحدس
قد يكون الفاعل بطلاً , او راوياً , او شخصاً هامشياً متعلقاً بلحظة حدس
خارج القياس لايمكن استحضارها مباشرة , انما بنحو (مجازي) آني .
لنراقب ما في المقطع الآتي :
[ضحك وليد . وقف وصفق بعكازيه , … ضحكنا سوية . وتذكر :أنت محظوظ لأنك تستطيع الحصول على وظيفة جديدة كل ثلاثة اسابيع
من دماء المتبرعين . إنه أمرٌ ممتعٌ جداً.
قلت … انني اعرف هذه الأيام المعجنات والحلويات من روائحها دون
ان أراها . وأعرف أسماءها والخلطات التي صنعت منها , فقال مندهشا
: ” يبدو ان صاحب الحلويات تبرع بالدم … هذا غريب لأن أشخاصاً مثله
يملكون المال لا يعطون شيئاً بالمجان فكيف بدمائهم] ـ رواية ديسفيرال ,
ص130.
مَن الفاعل الاساس في هذا المقطع , ومن بطل الفعل , ومن الراوي؟
لعل جابراً هو كل أولئك , لذا فهو خالق الحدس الاشاري كونه أوجد ست
اشارات حدسية مُكًثِفَة للفعل الروائي هي :
1 ـ الضحك , اشارة الى اللهو المتوقع من صبيين معوقين , هذه الاشارة
حدسية غير مقاسة , لا يمكن استحضار دلالتها تماماً كونها حدسية.
2 ـ التذكر , اشارة فهم لا زمنية يقوم بها وليد , لانعرف لأي جزء زمني
سيكون التذكر, وبِمَ سيتذكر وليد , لكننا نحدس انه سيتذكر حالات جابر
السابقة المتعلقة بالكفاءات الوقتية النادرة التي يكتسبها من متبرعي الدم .
3 ـ التمتع , فعل نفسي فيه من الحيرة والسخرية اشارات غير متوقعة
يمكننا ان نمدد دلالاتها في كونها تغطي لقطات حركة روٍ مركب , فالتمتع
قد يكون بحياة المتبرعين المهنية او الشخصية او الكفاءات النادرة او
التمتع بمتعهم الجنسية , وحب المال , وحب التباهي , وحب علو المكانة
الاجتماعية , وغيرها . أن التمتع بوظيفة لا يقيدها اطار يعني توسيع جمالياتها
الدلالية , حتى من الجانب التقني , تتقبل الاحصاء المفتوح , والدلالات التنغيمية ,
مما يقرب هذه المتعة من ايقاع اللحن السماوي في متعته بالأرواح التي تخلد
الرب مثلاً. وسيحدث مثل هذا كثيراً (في احداث الرواية اللاحقة).
4 ـ المعرفة , هي الاخرى اشارة حدسية لا يمكن تجسيدها إلّا مجازاً ,
عبر حدس مضمرها الدلالي , مثل علائقها بالمعاني الكثيرة , التي مظهرها
روائح المعجنات والحلويات , لكن قد تمتد للعلوم التاريخية والاجتماعية
والتكنولوجية , والفلكية , وربما سيلهمه البعض معارف دينية لعدة طوائف
دون تناقض حقيقي , اذ أراد الكاتب التلميح بوحدة اليقين الرباني في عدة
مواقف سابقة لأحداث الرواية .
5 ـ الدهشة , هي حدس إشاري طريف , فالدهشة سببها نوع المتبرع
وليس غرابة المعلومات . انها دهشة منفتحة على ركنين هما , تاجر الحلويات ,
وطبيعة التبرع كونه دماً , فتجار الحلويات حريصون على المال , حريصون
على البيع , حريصون على الاعلان عن انتاجهم لأغراض ربحية , وفي هذا
نخمن ان التبرع سببه غرابة التاجر كونه يتبرع لا ان يبيع , ويتبرع بالدم
وهو أهون عليه من التبرع بالمال كون التبرع بالدم يزيد في كفاءة صحة الجسم ,
فضلاً عن الهدف الذي يمكن ان نحدس , بان التاجر هذا وضع تبرعه بالدم
بموضع الدعاية والاعلان عن انتاجه , وكاتب المقطع لم يوضح هذا الأمر ,
مما أثار فينا متعة التأويل الحدسي .
6 ـ الطبقية , يحدد المقطع بان الاغنياء لا يتبرعون بالمال ولا بالدم , وهنا
ينجز القول حدسياً طبقياً , له عدة مصادر فكرية وشعبية , منها ان الفقراء
هم من يصلحون لعمل الخير , وان الاغنياء لن تبرعوا , فهم سيصيرون
فقراء ان تبرعوا , وهذا معكوس الواقع العملي لحضارتنا الحالية . كما ان
البخل والظلم , المرتبطان بالمال ومرتبطان بفساد الفطرة البشرية , وسوء
كان التنافس على حاجات السوق , أم على الدم الذي يرتبط بالسوق
مباشرة . بينما الفقراء لا عُقَد مالية لديهم فهم طبقة العطاء
الدائم .
وثمة طبقية عميقة الجمال هي ان المتبرع غني وعمله حلويات , وفعله
خير , وبذلك فهو طيب ويحب الاطفال .
* الا يشكل هذا الفعل ـ التبرع بالدم ـ حدساً مفاده : ربما المتبرع قد تبرع بدمه
لنذرٍ قطعه على نفسه عند ربحه لصفقة ممتازة , او لنجاح حياتي ما , وربما
تبرع بدمه لجابر (الذكر) لكونه يرغب ان يرزق بذكر لا ببنات؟
ترى من راسم اجوائية الفعل الفكري للمقطع ؟
ونرى ان كثافة الاشارات الحدسية لها مًصممٌ رئيس هو وليد , الذي برر للبطل
ان يكون فاعلاً بطلاً راوياً , ومن ثم وضع لفعل التبرع أرضية فكرية منحازة
ومتحررة , فالانحياز يؤكده الايمان بان الفقراء هم صناع الخير , والنظرة
الحرة تجيء من زاوية ان المتبرع ليس فقيراً وانه تبرع بأثمن من المال.
ب ـ مخزن الذاكرة
بمحاولة الانتقال بالقول والسلوك ـ فعلاً وفكراً ـ لشخصية عميقة , من الغيب
السري الى المظهر العلني , فان مخزن الذاكرة سينقل فعلها من الباطن
المنسي الى التدوين التسجيلي. سوف تكون المعلومة الاجتماعية مأثوراً
لمخزن الذاكرة , والجماعة سيكونون مشتركين مع الشخوص الابطال في
تركيب الفعل الروائي :
[المرة الوحيدة التي عرفتُ فيها مسبقاً دماء الشخص التي ستعطى لي , كانيوم تبرع لي أبي في المنزل بسبب حظر للتجوال قبل سنوات , وهي المرة
الأولى أيضا التي عرفت فيها شخصاً من الداخل والخارج في آن واحد .
أبي الخارجي الذي عرفته وأحببته طوال عمري . والداخلي المدفون فيه
سره الناهش ـ صدره ـ كالسكين والذي انتقل إليَّ بطبيعة الحال دون ان
يدري . ثلاثة أسابيع ويومان وست ساعات من أبي الذي يعيش في جوفه
ندم فات أوانه وهوة سوداء قديمة مثل بقعة نفط طافية في البحر. امكنني
مشاهدتها بوضوح في ماضيه الذي لا يكف عن مطاردته]([2]).
نلاحظ على المقطع :
1 ـ ان الشخصية المزدوجة هي الأكثر متعة وعمقاً , وهما جابر وابيه , أو
جابر المتلبس باطن وظاهر أبيه , بمعنى ان جابر في هذه الحالة ثلاثة شخوص
(الابن , الأب الاصيل, الأب الهجين). وله ثلاثة انواع من السلوك ان لم تكن
ستة , فهو يتصف بفعل الابن المحتج على ماضي الأب , وسلوك الأب الذي
يبرر لنفسه اضطراره لأخذ موقف حاسم كبير يغير حياته , فضلاً عن انه
يحتار في اختيار نوع الموقف بإزاء أبيه الخاطئ غير التائب الذي يحبه ,
وربما يشفق عليه من الظروف القاسية التي وُضِعَ فيها من قبل , وماتزال تنهش
بصدره ندماً.
2 ـ مخزن الذاكرة استل غيب الأحداث وغيب سلوك الأب ليخرجه الى العلن
ولو على نطاق محدود ـ للابن فقط ـ قد لا يكون مضراً كثيراً . لكنه صار
علناً , ومحسوساً.
3 ـ الندم الذي فات أوانه يعني انه تمكن من نفسية الأب ليحتل كيانه كعقدة ستحرك فيه الاسى
الدائم مثل اي مرض عضلي لا يقل سوءا عن مرض الابن جابر.
4 ـ مخزن الذاكرة يصير حالة نبوءة لجلد الذات وقيمة تدمير لتاريخ
ال سعيد الذي استبشروا به على ص7.
5 ـ (بقعة نفط طافية في البحر) تدل على اكثر من مؤول للفهم , من تلك ,
انها وساخة تعم سطح البحر على سعته , ومنها انها دلالة تخص قلتها بالقياس
الى نظافة البحر (الاب) وكأنها لا تستحق غضب الاب على الابن , وعذاب
الابن عذب الاب مضاعفا. وقد بقيت هذه البقعة السوداء محصورة
بشخصين الاب والابن حتى الصفحة 248, ولم يكشف عنها الراوي
ولا الروائي الا في الصفحة الـ 249 , التي تسبق الصفحة الاخيرة بخمس
صفحات. وهذا يعني ان السر الكبير (الحدث الأهم في الرواية) ظل محفزا
على المتابعة من صفحة 141 حتى الصفحة 249. سيزداد الأمر متعة اذا علمنا
ان الابن عرف السر قبل عشر سنوات وما أفضى به أبداً , انما الاب هو الذي
اذاع سره ليشرك به جميع من سمعوا بقضية الثلاسيميا ودواء الديسفيرال
للابن جابر , معتقدا ان اذاعة السر سيخفف غضب الله عليه , ويزيل
لعنة المرض الوراثي عن عائلته.
* نرى في شراكة الجميع بصنع اسطورة (السر) جودةً لكفاءة تقنية ومعرفةً
جيدة بعلم السرديات , جعل مخزون الذاكرة بهذا الاداء الدقيق لخدمة صناعة
مجتمع الرواية!.
ج ـ لذة التخيل
من المؤكد وجود لذة للكاتب في حال , ان يكتب (بصدق وعناية وجودة) قد
تتغلب هذه على الاغراض الموضوعية الاخرى لما بعد الكتابة , وتلك اللذة
مصدرها التخيل , لمادة الكتابة , ومستقبلها , ومكانة الكاتب بعدها وموقف
الاخرين منه . والتخيل قد لا يكون خصباً دون جوٍ خاص يساعد على تنشيطه
وتوسيع صوره عمقاً ومعنى وفلسفة , تلك كلها قد تجعله يضع السكون والعزلة
بأولويات اجواء التخيل الكتابي . نرى التخيل صانعا للذة بائنة , كأن
الكاتب يدخل مضمراً صورياً في فعل وكينونة الشخصية ذات الفعل المباشر ,
لنتابع :
[يقولون بان من يموت تسقط ورقته من شجرة الحياة. وانا ورقتي العنيدةمازلت معلقة هناك تقاوم ريح سقطتها خريفاً بعد خريف . ولكن ماذا
سيترك شخص شبحي مثلي لو مات . أي نوع من الفراغات سيحدثه غيابي .
سيتخلص أبي من شعوره بالذنب وحِمل المسؤولية الثقيل وهو بمنفاه في القرية .
وامي ستواصل اعتناءها بإيثار كأنه ما يزال رضيعا . وستندرس ساعات
اعتيادها الليلية على حراسة ابرة الديسفيرال المطمورة في جسدي ومراقبتها
النهارية لعزلتي . وستمنح فراشي وملابسي ومنشفتي وحذائي ومضخة دوائي
ونباتاتي الى الفقراء صدقةً على روحي مختتمة بها حسنات رعايتها لي .
وسيجد المقعد الجلدي المائل برتقالي اللون في مركز الثلاسيميا والاطباء
والممرضون والمختبريون والصيادلة مريضا غيري يؤدون معه الواجبات
ذاتها التي ابقتني عالقا بين حياة غير مكتملة وموت تأخر موعده] ـ
ديسفيرال , ص158.
الظرف الذي انتج المقطع ظرف جابر المعزول طبياً وبيئياً , المربوط
الى ابرة الديسفيرال , هو ظرف نفسي صعب وغريب صوّره خيالُ الكاتب
بشغف كبير , يتضح ذلك عبر استقراء مستقبل الشخصية , داخلاً في أعماق
تفكيرها وحالها , إذ الكاتب نفسه من يرسو بعقدة البطل لظرفها ممثلاً لنفسه اياه ,
حتى لكأننا نراه هو المريض المنعزل .
ان من فرادة عمله التخيلي ان يخلق لذة للقارئ ـ وهي لذته ككاتب أولاً , وهو
في حالة كتابة , حتماً . تلك الفرادة لها الملامح الآتية :
ـ تخيل الكاتب ان جابرا سيتحدث بسر أبيه قبل افتضاحه, ثم يموت فيعود الأب
من عزلته في القرية متحررا من عقدة الذنب , التي مثلت الحجاج
الاساس للثيمة المهيمنة في الرواية , لكنه هو لم ولن يتحدث مطلقاً فجابر لن
يذيع السر , وابوه لم يتفوه به إلا بعد ان يبلغ جابر السنة الثالثة والعشرين من
عمره .
ـ جابر يتصور ظرف بيته بعد وفاته , ويرسم تصرف والدته وكادر مشفاه ,
وحتى مقعد التمريض , تلك تخيلات لم ولن تحدث في الرواية لذا بقيت محض
لذة تخيل .
ـ المريض جابر يصف استمرار عمره الزمني بتوالي فصول الخريف ,
ليوسع تخيل طبيعة العزلة والألم عنده , كأن لا فصول للسنة عداه , وهذا
انحياز للحالة النفسية التي فيها يتقمص الكاتب حال شخصية المريض .
ـ يتصور المريض انه شبح , والشبح ليس كائناً حقيقياً , فهو يضع لنفسه جسداً
لا مرئياً , تشبه الروح , مع ان البشر لن يصيروا أشباحاً أبداً لذا فالصورة
شغف تخيلي نقي يوحي بمتعة ولذة الكاتب المتخفي وراء شخصية جابر ,
وهذه اللذة ستنتقل مثل عدوى الى القراء لما فيها من (صدق فني).
ـ ومن بواطن التخفي النفسي غير المفضوح ان الكاتب يتخيل وجود تنافس
بين الاخوين , كون جابر سيموت وان ايثارا سيستأثر بحب أُمُه كلياً.
ـ تخلص الأُم من مسؤولياتها بإهداء حاجات جابر الى الفقراء , وعدم تركها
رعاية جابر سيزيد حسناتها , وكأن التعب والألم الذي تتحمله الأم لا هدف له
سوى جمع الحسنات , وان الأُمومة ليست سوى مهنة تنتهي بنهاية صلاحية
المولود .
لذة هذا التخيل بما يوحيه من استفزاز معاكس للقارئ الذي سيعتقد بفساد
منطق الولد المريض.
ثانياً : الصناعة اللغوية
يُبث الخطاب الروائي بلغة حيوية بين طرفين يتناوبان اللعب بمنظومة اللغة ,
الكاتب والراوي , فهما متفاهمان , ومتناقضان مزدوجان , يحتفي كل منهما
بذاتية متخيلة تعويضية , لنلاحق صنعة اللغة هذه التي اظهرت
رواية نوزت شمدين (ديسفيرال).
أ ـ الشد النفسي الحيوي
الشد النفسي تنافس بين شخصيتي سليم وزاهدة من النوع الحيوي , فهما زوجان
متفاهمان محبان لبعضهما , لكن ظرفهما جعل حياتهما تتعرض لازدواجية
من القلق والاهمال :
[لا يمكن وصف الرعب الذي كان ينتابني ما ان يتلوى ايثار باكياً… كنتُ
أوقظ سليماً من النوم ليلاً وأسأله ان كان يلمح أي تغير طرأ عليه … وكان
يجيب نافياً وهو نصف نائم , فلا يريحني ذلك . وأُقَرّب إيثاراً منه , أضعه
على السرير بجواره وأشعل مصباحاً آخر في الغرفة فيقول بأن الوسواس
سيفقدني عقلي . ويدير لنا ظهره ويرتفع صوت شخيره . اعيد عليه السؤال
في النهار … كان يبتسم عندما يكون مزاجه على ما يرام ولا يرد بشيء]
ـ ديسفيرال , ص146 , ص147.
الشد النفسي والتنافس بين سليم وزاهدة صار موضوعاً لتبادل المسؤولية في
رعاية الطفل ايثار, وفي هذه الرعاية رعاية للطفل الآخر جابر ـ بطل رواية
ديسفيرال , لكن التنافس لا يأخذ اتجاه الترفع والخضوع بقدر كونه شدا
نفسياً بين الأطراف التي تبتغي الوصول لأعلى درجات الخير لهما
ولطفليهما . ومن السابق لأوانه ان نتحدث عن منافسة متخالفة حد التقاطع ,
لكن الفرق بين الموقفين يدعو الى وصف هذا التنافس بكونه شد نفسي مزدوج ,
فكلاهما مضطرب وقلق , وكلاهما انهكه البحث عن بصيص أمل لشفاء جابر ,
ولدهما .
لقد وقف الأب سليم موقف من جزع وملّ وتعب , نفساً وجسداً حد ان
جسده لا يتحملان حتى السؤال عن حالة الطفل الثاني .
يمكن حصر التنافس بنقطتين :
ـ الاب تحمل وزر البحث عن حل سريع بمفرده من الجانب الاقتصادي
والاجتماعي فضلاً عن الارتباك السياسي , وانه وقف كالمتفرج على قلق
زوجته الحبيبة .
ـ ان الزوجة وبالرغم من تحملها المتاعب والمسؤوليات كأم
وممرضة وزوجة , قد تعاملت مع هذا الشد كما لو كانت هي الأُم الوحيدة
التي تحرص على عائلتها وان الأب مهمل لواجباته , بدليل انه ينام ونومه
فيه شخير! , فضلاً عن أنها تقوم بواجبها الليلي دون تذمر, وانها غير
مرتاحة , بينما يكتفي الزوج بالابتسام عندما يروق مزاجه .
إذاً التنافس ليس فيه غير قضية واحدة , (من الذي سينجز الخير بأكثر قيمة
من غيره!).
ب ـ التقويض الجسدي
من بين جوانب عدة لتنويع المتعة القرائية , ولأجل تسويغ تزجية
التورط الانفعالي المضطرب غير الحائز على أي موضوعية عدا الاقناع الفني ,
يطرح الروائي نوزت شمدين حالة تقوض التوافق الكياني بين اطراف
انسانية موجوعة تقيم بينها علائق قدرية مرتبكة , لمثل هذا يجمع الظرف
بين وليد المعوق بساقه , وجابر المعوق بدمه , وليان المعوقة بفقدان حبيبها …
ثم يحب جابر ليان عند تمثله لها عبر تبرعها بالدم دون ان تعرف مَن
المستفيد فهي تبرعت الى مصرف الدم والمصادفة صنعت من دمها حالة
عرفها جابر , كون صاحب المرض مثله له قدرة ان يعرف كل شيء عن
حياة وشخصية المتبرع , حتى ادق التفاصيل السرية الجسدية والنفسية .
وفي حالة جابر فقد أخبر وليداً بحالة حبه لليان , فاقترح عليه ان يمثل لها
شخصية تشبهها كلياً , مستفيداً من معرفته السرية لها عبر دمها في جسمه ,
لكن التقويض لكل بُنى التوافق النفسي الغريب الذي ذكرناه سيتغير كلياً ,
يصير مظهراً جسدياً من الماضي :
[مارس وليد معي لعبة … فحين استنفد أدوات تعذيبه لقلبي بذكريات ليانعن حبيبها نسيم , ذكرني بتحقق نبوءة الصوفي الطويل وفشل محاولتي
المكشوفة قدرياً في تغيير مصيري …
في العاشرة من صباح يوم الثلاثاء وقفتُ على رصيف الجهة المقابلة لمتجر
ليان انتظر وصولها … في جمجمتي معركة حامية بين جابر العاشق الحالم
الذي أراد ان يجثو على ركبتيه أمامها متوسلاً عطفها وكرمها لتتبرع له بكيس
آخر من الدم , ثم يحكي لها القصة كاملة لتعطف عليه وتفتح له شرايين قلبها .
وبين جابر المريض وغير القادر على بلوغ النهايات…
توقفت سيارة حمراء فارهة أمام المتجر. ترجل منها نسيم من جهة السائق .
دار بخفة وفتح لها الباب … سارا يقطعان الرصيف الى المتجر وأنا خلفهما
أمشي مثل عجوز طاعن …
مرت سنتان على ذلك ومازلت أذكر السكينة التي حلّت عليّ والرضا الذي
امتلأتُ به وأنا أدخل مركز الثلاسيميا … جلستُ على الكرسي الجلدي
المائل برتقالي اللون . مس الممرض البشوش مرفقي بالكحول , ثم نزع
غطاء الابرة وفي الوقت الذي كان سيغرزها في وريدي انتقلتُ الى عالمي
السري لأعلن من هناك عن ألمي واحتجاجي وأبكي فيه مثلما أُريد]([3]).
سأتقيد بالمظهر الحركي والشكلي للأجساد ليبين تقويض تلك العلائق كأن
القدر مُسْهِم بتصميم هذه الكتلية السلوكية .. لنا ان نبرر افتراضاتنا على
الوجه الآتي :
1 ـ ان الاجساد الرديفة بالشخوص وُصِفَتْ برؤية الكاتب وبصيرة
البطل جابر , لم يشاركهما آخر في وصف الهيئات تلك.
2 ـ جابر النحيل المريض يفعل ما يأمره وليد ذو الساق الواحدة , وهو ميت
منذ سنوات, بمعنى ان وليد الشبح يتحكم بجابر شبيه الشبح .
3 ـ نسيم وسيم ورياضي وحبيب نهائي للفتاة ليان , وهو منافس لجابر على
حبها , مع ان جابراً لم يخبرها بحبه , ولم تعطِه اي علامة او أمل بوجود هذا الحب .
4 ـ ليان وهبت دمها لمصرف الدم ولا تعرف أي تفاصيل اخرى , وجسدياً
هي فتاة جميلة , نشيطة , مرضها الوحيد هو حبها وقد استعادته .
5 ـ جابر يطمع بالحب المستحيل , من ثم يطمع بكيس دم , من ثم بسعادة
من سبب السعادة التي يسببها للآخرين عند تبرعهم بالدم دفعا للشر
وتحصيلا للخير والبركات.
6 ـ ليان وجابر ونسيم ووليد , لا يجمع بينهم اي ظرف حقيقي في المقطع
المتقدم , لذا فهو لقطة من مشهد لشيء يقوّض اللحمة الحدثية , لكنه يُمَتِّن
ويماسك الفتنة الجمالية.
7 ـ التقويض الجسدي هو الأساس للتقويض الدلالي , فعدم تقارب
الأجساد(شكلا , وهيئة , وصحة) باعدَ بين الأنفس , من ثم , باعد المصائر.
(وليد يصبح مقتولاً بالذبح , وجابر ينازع الموت) , (نسيم وليان يبدآن حياة الأمل) .
8 ـ جابر يتسامى في موته ويسهو عن حاله ويُسعد في عزلته لكونه شفي
من مرض الحب القلبي .
9 ـ المصير المعلوم المجهول لجابر يجعل الحدث (زرق ابرة الديسفيرال) حدثاً
سردياً لن ينتهي .
10ـ الثيمة الفنية المهمة للمقطع تنحصر في كون (الحرية تكمن في تحرر
الأجساد من فضاءات آلامها , من ثم حصولها على سلامها الداخلي) , وكلاهما
(الحرية والسلام) تموَّه معناهما بالموت , الذي قد يقتل الأمل (لنسيم وليان) لاحقاً.
ثالثاً : تظليل الخلفيات
للخلفيات الروائية من جانب مصادر الروي متصلات مكونة لها , منها صور
من الذاكرة ومنها صور مخلوقة , وكلاهما يعمد الى علائق من الواقع
المتخيل ومن التخيل المؤلف لفن الاقناع للفهم , لكننا في هذا الحقل
الفني (رواية ديسفيرال) نريد ان نذهب الى الجدية الفنية التي تصم
الخلفية الروائية ببصمة مختلفة عن مألوف الاشتغال النمطي مستعيرين
تقانتين من المسرح عبر آصرتي :
تخص الصورة في الكتابة , إذ انها مظهر جمل الانشاء أو العبارة المكتفية
أ ـ فوتوغرافية المفارقة
المفيدة , وفي الرواية نُعنى بها كلقطة مخلخلة لنظام التتابع من جانب ,
ومغايرة للمعنى المباشر من جانب آخر . لننظر :
[ما ان اعلنت القابلة عفاف تحقق نبوءتها وأن المولود المنتظر ذكرٌ حتىرفع سليم المترقب من الخارج يديه الى الأعلى ثم هبط بهما مشيراً نحو
حشد من الجيران زرعهم الانتظار منذ ساعات في الحديقة مانحاً الاذن ببدء
احتفال استمرار ذرية آل سعيد , فعلا الهتاف وتطايرت الحلوى فوق الرؤوس
وباشر فريق من الملتحين ارتدى اعضاؤه دشاديش قصيرة اظهرت شيئاً
من سيقانهم النقر بتناغم على دفوف قرّبوها من وجوههم ورددوا بصوت واحد
متوافق مع الايقاع :
” جاء بعد طول انتظار”
ثم دبت الحماسة في قصاب الحي ومساعده فنحرا كبشي النذر الضخمين في
الباحة قبل ان يفرغ الامام شجاع الواقف خلفهما من الدعاء , فعدَّ فعلتهما
مخالفة شرعية]([4]).
نلاحظ ان المقطع قد احتوى فرائضنا اعلاه على الوجه الآتي :
1 ـ ان الصور الروائية الشبيه بالفوتوغراف , الأبرز من غيرها ,
تتمثل في(القابلة عفاف , المولود الذكر , ارتفاع يد سليم لبدء الاحتفال ,
حشد الجيران , علو الهتاف , مباشرة الملتحين بالنقر على الدفوف , نحر
كبشي النذر , وجود الامام شجاع). تلك صور حسية مجسدة ليس فيها
ولا تغطيها دلالات بعيدة , كونها صوراً .
2 ـ ان علاقات المقطع النصية لن تقتصر على تجميع الصور انما قدمت
مجسات مسبقة عن التطورات التي ستأتي لاحقاً , التي ستعمق من أثر هذه
الصور . من تلك العلاقات مثلا :
ـ علاقة المولود بماضي أُسرتي الوالد والوالدة , وهي علاقة ما يزال السرد
بعيداً عن كشفها.
ـ علاقة المولود باستمرار ذرية آل سعيد , وهي علاقة لم تخضع بعد لأية
تأويلات ولم تبن عليها ـ بعد ـ توليفات حدثية معينة .
ـ علاقة القصابين بالنذرين , وبالإمام شجاع , وهي تبدو مقامة على أُسس
الهزؤ بالامام شجاع , لكنها في الرواية ـ لاحقاً ـ ستختلف كثيراً .
ـ علاقة الامام شجاع بالفتاوي الشرعية , وهي علاقة ستتعقد لاحقا .
3 ـ المفارقات التي يحتملها السرد الصوري الذي ألّف المقطع تبدو انها
لا تتعدى ثلاث مفارقات هي :
ـ نبوءة القابلة : كونها غير مؤهلة لمثل هذه النبوءة فهي بعيدة كلياً عما يجري
ومع ذلك فقد نسبت لنفسها أهمية لا تقدم ولا تؤخر , انما ليقول الكاتب هذه
هي الروحية الشعبية للقابلات عموماً.
ـ مفارقة انتظار حشد الجيران : فهم ينتظرون وليداً لا يعرفون جنسه ,
فهم محتشدون على أساس ان المولود , ان كان ذكراً تمتعوا بالأكل والشرب
الباذخين وفضلاً عن الفرح الحقيقي الذي سيشاركون به والدي المولود ,
ولو كان المولود بنتاً سيتجهموا ويذهبوا مهمومين دون أكل او شرب او فرح ,
والمفارقة تكمن في روح المجازفة , فهم كلهم لم يتوقعوا ان يكون المولود بنتاً ,
لماذا ؟ لا أحد يعرف!.
ـ مفارقة الامام شجاع كونه تحول من ضارب على الدف بإيقاع (جاء بعد
طول انتظار) كأنما كان الامام ينتظر ولادة نبي! , يتحول الى اصدار فتوى
بالمخالفة الشرعية للقصاب ومساعده , كونهما استعجلا ذبح الكبشين,
المفارقة هنا مزدوجة كون الامام طبال , ومصدر الفتاوي , من ثم فهو يستمد
سلطته من طاعة الناس له , لكنه يصطدم بجهل وهزؤ القصاب ومساعده.
4 ـ ما مر آنفاً ـ برأينا ـ هو توليفة صورية لمفارقات حدثية تكوًن خلفية
أولية للرواية تكتمل بالسنوغرافيا الملحقة .
ب ـ سنوغرافيا الإلحاق
هي من ملحقات المدونة الروائية , تتمثل بإشارات وعلامات تحيط بالأفعال
(الوقائع) من أبعاد خارجية يشبه فعلها فعل ديكور المسرح , الذي يدفع
بالمتلقي ليشكل مكملات منها ماديات للفعل الروائي , ومنها ما يصنعه
المتلقي بنفسه . لنتابع قول الراوي البطل جابر:
[ “لا شيء يقتل السيد حازم” همست جدتي وتلفتت خوفاً من ان يستمع جنيٌما الى تلك النميمة وينقلها بسرعة البرق للعراف خارق القدرات , كاشف
سر الموت ومحدث المعجزات . كان يفوح منها دهن ” فيكس” والشاي المهيل
وصابون لوكس , وتستعد للدخول في غيبوبة العصر…لاح رأس أمي من فرجة
المطبخ . وضعت سبابتها على فمها مشيرة علي بالتزام الصمت … لم تكن لدي
… أية نية لقول شيء … كنت مشغولاً بحاسة الشم المتضخمة فجأة لدي
ومستمتعاً بمقدرتي الفائقة على فرز الروائح وتحليلها … رجع لصوت
جدتي ألفته] ـ ديسقيرال , ص104, ص 105.
ان سنغرافيا المقطع يشع بلونه متشبثاً بلون وحالة الجدة وحالة الأُم فهما
ديكور لحالة البطل جابر, اما السيد حازم , والموت , والجني الخارق , فهم
ديكور للجدة , بينما الأم صارت ديكوراً مضمراً للجميع , فهي تتستر على
حالة خرف الجدة وحالة شطط الابن , وحالة الصوت الذي يغلق
حالات عناصر السنوغرافيا الفائتة.
* نرى ان افضل متع السنوغرافيا تتشكل من :
ـ معقولية استحضار الموتى والخوارق ـ بحسب تصورات الجدة.
ـ انسانية الأم المتسترة على الحالات كلها مثل الديكور الذي تتغير جهاته
وألوانه ليحافظ على أسرار النمو الدرامي بين الشخوص.
ـ الفطرة الرديفة بفعل وحركة العناصر المؤلفة للديكور كرائحة الفيكس
والشاي المهيل وصابون لوكس وغيبوبة الصلاة.
ـ ثمة امران يوقفان حركة الديكور بلقطة مهمة , انهما انشغال البطل جابر
بالروائح , وعودة الالفة لصوت الجدة , وهما هنا ـ بحسب ما نرى ـ قد
ختما حركة الديكور وفسحا المجال امام الاحداث الروائية التي تليهما ,
فالرواية فن التلاحق الحدثي والتلاحق السنوغرافي أيضاً كونه الالحاق الممتع
والمتغير والباني للدلالات المضافة من خارج الحدث الروائي الأصلي.
رابعاً : التبطين بالبنية الفوقية
لابد للغة السرد ان تفرد بخصوصية الترتيب الحيوي الخاص بالتبطين الدلالي
لتفتح قوى البناء الفوقية على ما يخرق رتابة الحكاية داخل متن (المروية / المقطع)
كون المقطع هو من يصيّر لغة السرد بُنى يتلو بعضها بعضا , بها تنظيم الدلالة
كتنسيق في اللغة , ” هي الترتيب النصي للأفكار المتقاربة
” بمعنى ان البنى هي ترتيب لأهمية المقول من جانب كثافة الاشارة المنسقة
للأفكار ذات الهدف المشترك , لنتفحص الاتي :
[سرعان ما أصبح وليد درعي الحصين في المدرسة وخارجها تعديلاً علىقانون تقييد الحرية الذي كان قبل ظهوره غير قابل للخرق في معظم الأشياء
الطبيعية التي يفعلها الصبية الذين في مثل سني . فسُمِح لي وللمرة الأولى
بحياتي , السير وحيداً لشارعين كاملين … لم أُشكل اية اضافة الى وليد
باستثناء فائدة قدمتها له في الامتحانات الشهرية التي اعتمد بها علي في
سنة زمالتنا اليتيمة] ـ ديسفيرال , ص93 , ص94.
نرى :
1ـ ان الذي جمع بين التلميذين وجعلهما محميين معاً هو شجاعة وليد , وانسانية
وعوق جابر , وتعاطف المعلمين معهما.
2 ـ العامل الأول أفاض بنتيجته الى عامل حرية جابر .
3 ـ توالي الأفكار واقترابها بين المعلمين والمعوَقَين جعل ثيمة التقارب تصير
منتظمة لتعبر الفكرة ـ بالتوالي ـ الى خارج المدرسة ثم الى الأهل , ثم الى
الثقة بوليد وجابر في حمايتهما لنفسيهما , وثقة ان يحميا نفسيهما انتقلت
عمليا , وبالتوالي السلوكي , الى الثقة بالنفس للصديقين .
4 ـ التنسيق والتناسق بين الافكار لـ (المعلمين والتلميذين , والأهل) جعل الفكرة
الخاطئة الشائعة بين الطلاب محكومة بعامل انساني خارج المنظومة الاخلاقية
التي تقول (لا للغش بين التلاميذ) , فصارت حماية وليد لجابر جسدياً , تقترب
من حماية جابر لوليد من الرسوب والنجاح بالغش.
5 ـ يظل (الخطأ البدئي القدري) منظماً نسقياً يوحي بالتوالي والتشابه الفكري
والدلالي والسلوكي , كأنه هو القوى الفوقية التي صيرت بنية الشخوص الفوقية
للمقطع السابق , لتكون قانونا سرديا لهذه الرواية ـ لو تابعنا ذلك إحصائيا.
خامساً : لواحق طبقات الاستعارة الكفؤة
الاستعارة الكفؤة تدهشنا بما تحتوي من دلالات , وهي في رواية (ديسفيرال)
تؤلف تراكماً دلالياً يشيد معنى الرِفعة لبيئة الجمال العلمي الروائي عبر
الحكايات متنوعة المضامين , ويعني هذا ان طبقات التراكم الدلالي تحظى بفعل
سردي قد يملأ ساحة عرض الرواية برؤية سردية منظمة على وفق الرأي الذي
نصه : ” الرؤية تخضع لقدرة الراوي على بسط شخصياته وصفيّاً وسايكولوجيّاَ
وفكريّاً , وذلك في وضعه الفعل تحت تصرف الشخصية “([5]).
بمعنى ستكون مستويات الكفاءة محكومة برؤية مسبقة يقررها الكاتب
فكرياً وسايكولوجياً عبر وصف حركة الشخوص وافعالهم .
ليس من المُسْتَبْعَد عودة الديمومة لجميع شخوص الروي بأشكال جديدة بمقاطع
صغيرة منتقاة. وكل منها يحتاج موضعاً وزمناً يتحرك ضمنه ثم , قولاً يحمل
مكامنه وظواهره, ولن نجد افضل تمثيلا لذلك من الحدث الأهم الذي يستوعب
معظم شؤون طبقات الاستعارة الكفؤة لواحقه , فضلا عن ان الموضوع
الرئيس المحرك للروي موضوعا طبياً, لنتوخى فهمنا اعلاه عبر الآتي :
أ ـ الحدث الأهم
[مع اعلان انتهاء حرب البلاد مع التحالف الدولي في الثالث من اذار 1991 …حمل الشيخ عزام ظهر ذلك اليوم بندقيته البرنو ووقف وسط حلقة رقص
شكلها القرويون وداروا بها قبالة منزله لكنه سقط فجأة على الأرض صريعاً
برصاصة ثقبت جبهته . قالت الشرطة في تقريرها الذي اغلقت به القضية
بعد تحقيق قصير انها طائشة ويستحيل معرفة البندقية التي انطلقت منها…
بعد انقضاء أشهر الحزن الستة الاولى على وفاة الشيخ عزام رضخت زوجته
الأولى (شمس) للواقع وأرسلت ـ سراً ـ من يخبر الشيخ مجيد بموافقتها
على زواج زاهدة من سليم] ـ ديسفيرال , ص26 , ص27.
ب ـ اللاحق الأول
[أخيرا ولد جابر … مانحاً والديه نهاية ربيع1997 فرحة متأخرة … تحولتالى خيبة… متضخمة الى خطيئة ظلا يسددان فواتير ثمنها الباهظ سنوات
دموعاً وسهراً وجرياً خلف الآمال] ـ ديسفيرال , ص334.
ج ـ اللاحق الثاني
[لم اتحمل مزيداً من الغموض , طلبتُ من ـ سليم ـ متوسلة بأن يشرح لي ما قالهالطبيب (ماذا يعني ثلاسيميا)؟!
أخذ نفساً عميقاً ووضع يده على جبهته ـ قال :
ـ ” مرض وراثي والمصاب به يحتاج الى تزود مستمر بالدم . في الأقل مرة
واحدة في الشهر …” يعني مدى الحياة”] ـ ديسفيرال , ص 48.
د ـ اللاحق الثالث
[سليم وزاهدة سمعا طرقاً متواصلاً على الباب الخارجي . بعد لحظات احاطالامام شجاع ومعه ثلاثة أشخاص بسليم … قال الامام شجاع :
ـ لاشك انك تعلم حكم تارك شعائر الله . وتعرف ما تعنيه الردة وما يتوجب
عليها .
ـ قال سليم : أعاذنا الله وإياكم منها .
ـ قال الامام شجاع : دعنا ننتهي من هذا الآن . لقد أوقعنا على كل عاقل
مقتدر من سكان الحي مبلغاً من المال .
ـ قال سليم : انتً أكثر الناس علماً بوضع ابني …
الامام شجاع -علاجه عند الله …
رد سليم : سبق وان جاهدتُ بمالي . قال سليم بتلعثم راداً الاعتبار لكرامتهد
الايمانية المهدورة : ثلاثون ألف دولار …
ـ قال الامام شجاع : وهذا المقدار ما جئناك لأجله…] ـ ديسفيرال ,
ص197 , ص198, ص199 , ص200.
هـ ـ اللاحق الرابع
[دستُ على أوراق ـ سجل سليم الممزقة ـ في طريقي الى جابر عندماسمعتُ سليماً يقول لي :
ـ انا من فعل ذلك .
ـ انا المجرم الي يستحق العقاب …
قلتُ :
ـ هذا قدر من عند الله …
قال :
ـ هل تريدين ان تعرفي لماذا حدث هذا . هل تريدين ان تفهمي لماذا سقط
جنينان من بطنك واصيب ولدك بمرض لا يشفى منه أبداً؟ …
لقد قتلتُ أباك يا زاهدة . لم تكن الرصاصة طائشة , أنا من قتلته … لكي
يكفَّ عنّا ونستطيع الزواج…] ـ ديسفيرال , ص248 , ص249 .
و ـ اللاحق الخامس
[قلت له بهدوء قبل ان اغادر مع الولدين : ستكون معنا فقط خلال مسافةعودتنا الى بلادنا . لكن لا أريد أن أراك في المنزل أبداً] ـ ديسفيرال , ص 249.
الملخص بمقاطعه الفائتة يوضح :
1 ـ تسلسل الأحداث بدءاً بالحدث الأهم جُعِلَ للرواية عمق بؤري ومبدأ فني
يخص فعل الترويج باستثمار قدرة الأكشن على جذب الاهتمام القرائي والاعلامي.
2 ـ التسلسل غير المبرمج وغير المتناسل بنحو مباشر يتوافق مع التطور
الاجتماعي والسياسي للبلاد , لذا الرواية جَعلتْ ظرف العراق يشاع عبر وسيلة
غاية في الاهمال والهامشية هي (الثلاسيميا) وعلاجها (الديسفيرال) , بهما اعلنت
الرواية عن سوء الحكومات , ومقدار الحيف الذي يلحق المواطن , فضلاً
عن انها وضعت أُسسَ للتعاون الدولي بعيداً عن تصنيفات التقاليد الروتينية
(الوطنية والعمالة).
3 ـ قالت لنا الرواية ان الخلل ليس آنياً , انما تاريخي يبدأ بالقتل وينتهي
بالأمراض الأصعب من الموت , ففي البدء يتحكم العرف عبر القتل , ثم يتحكم
المرض الجسدي , ثم المرض الداعشي , ثم مرض الفقر الاقتصادي , ثم يتحكم
مرض القدريات بعقل منظومة الحكومة التي ما يزال البلد بسببها معلقاً بين الموت
والحياة , بمثابة (مغذي الديسفيرال).
4 ـ الحدث الأهم جيء به ليصير الشاهد التاريخي والسياسي على الأخلاق
الاجتماعية المرادفة لفعل التخلف الذي نقل جهالة الريف الى المدينة ونفعية
المدينة الى الريف , ليصير كل شيء ظرفاً مناسباً للخلل العام (دولة , حكومة ,
مجتمع) , (ادارة , اقتصاد , علاقات دولية).
5 ـ الأحداث اللواحق تمثل تهجيناً للتراكم الحدثي بطريقة التفريع والتشعيب
بما يضع النهايات المتعددة للرواية. بل هي لواحق تميع اليقين الأخير بوجود
شخوص قاموا بالأفعال , كأنما البلد كله صنع ثلاسيميا الألم الشامل , وان
المجرم الحقيقي وبعد 23 عاما ما يزال دون عقاب رسمي , عدا عذاب
الضمير لمن يصحو متأخراً.
[1] نوزت شمدين , رواية ديسفيرال , دار سطور , دار سنا, دار سومر , العراق , 2019
[2] نوزت شمدين , رواية ديسفيرال :141
[3] نوزت شمدين , رواية ديسفيرال : ص50 , ص253 , ص254
[4] نوزت شمدين , رواية ديسفيرال : 7
[5] د. إيمان السلطاني , الحكاية في رسائل اخوان الصفاء , منشورات ابداع النجف , بغداد , 2009 , ص126
اقرأ أيضا: حِوارٌ في الأَرحامِ