نص: ماهر طميزة
اللّيلُ مثلُ صدفةٍ ينوحُ فيها الصَّدى، مثلُ هيكلٍ فارغٍ لكائنٍ ماتَ منذُ زمنٍ بعيدٍ ولم تبقَ سوى قشرتِهُ.في اللّيلِ كلُّ الحكاياتِ الموجعةِ تَصحو، كلُّ آهاتِ الألمِ تُسْمعُ، الموتُ يجلسُ وينتظرُ لحظتَهُ، الموتُ يحومُ فوقَ رأسِهِ مَنْ يهربُ مِنَ الموتِ؟ الوقتُ رملٌ ملتهبٌ، مَنْ يوقفُ الوقتَ؟ كان الوقتُ مساءً حين نَظرَ سامحٌ إلى أخيهِ محمد من خِلالِ الخطِّ الفاصلِ بينهما داخلَ المَشيمةِ، كان ينتحبُ والصوتُ يخرجُ من أعماقِهِ، يرتعدُ جسدُهُ والأوجاعُ تنهشُ جسدَهُ وروحَهُ بإتقانٍ، يبكي بصوتٍ أقرب إلى هَديلِ حمامةٍ تختنقُ، سَمِعَهُ أخوهُ مُحمد وبكيا معًا، بكاءً يفطرُ القلبَ ويشقُّ الحَجَرَ وتَخرُّ له الأرواحُ.
– قال مُحمد: لماذا تبكي يا أخي حتى جَعَلْتَني أبكي معكَ؟!
– أمي مصابةٌ بمرضٍ خطيرٍ وأخافُ أن تموتَ ونموتَ معها!
ماذا تقولُ يا أخي؟ وما هو هذا المرضُ الخطيرُ؟ لقد جَعلْتَني أرتعدُ منهُ خوفًا!
– إنَّهُ مرضٌ جديدٌ ومميتٌ يُقالُ له كورونا (كوفيد 19).
– يا حَسْرَتي على أمي وعلينا يا أخي! سنموتُ قبلَ أن نرى الحياةَ خارجَ هذا النفقِ المُظْلِمِ.
بدأتْ أعراضُ المرضِ تظهرُ على الأمِّ من ارتفاعِ درجةِ الحرارةِ وفقدانِ حاسَّة الشَّمِّ وسعالٍ وصداعٍ قويٍّ أفقدَها توازنَها، طلبَ منها زوجُها الذَّهابَ إلى الطبيبِ لكنَّها رفضتْ بشدةٍ خوفًا على طفليها، وعلَّلتْ هذا الرفضَ قائلةً: هذا مجردُ رشح وسيزولُ قريبًا إن شاء الله. لكنَّهُ بقيَ ملازمًا لها إذ أخذتْ صحتُها تتراجعُ شيئًا فشيئًا وصارتْ حياتُها وحياةُ طفليها في خطرٍ. بعدَ عدةِ أيامٍ ومع اشتدادِ المرضِ صارتْ حياةُ محمد وسامح داخلَ المَشيمةِ حرجةً وبدأَ التَّعبُ يظهرُ عليهِما، وكان لسامحٍ النَّصيبُ الأكبرُ من المرضِ إذ بدأَ التَّعبُ يظهرُ على جسدِهِ الصَّغيرِ، كان يتألمُ بصمتٍ ويتحاشى إخافةَ أخيهِ محمد، لكنَّ الألمَ اشتدَّ عليهِ وأخذَ يصرخُ من شدةِ الألمِ.
– سألَهُ محمد: لماذا تصرخُ يا أخي؟
– الموتُ يدنو منِّي إنِّي أختنقُ. – كيف تختنقُ ونحن كنَّا جسدًا واحدًا؟ أرجوكَ أخي لا تتركني وحيدًا وترحل.
– لقد انتهيتُ، إنِّي منخورٌ من الدّاخلِ، إنِّي أعيشُ آخرَ لحظاتِ حياتي.
بدأَ الأكسجين ينفذُ داخلَ رئَتَيَّ ولم يَعدْ يصلُ إليَ الأكسجين من أمي، انظرْ إلى حَبْلي السرِّيِّ ألا ترى عليهِ بعضَ الجلطاتِ ؟!.
– بلا أرى ذلك لكنْ لا تقلقْ سوفَ أضربُ بطنَ أمي كي تساعدَنا للخروجِ من هذا المكانِ المُظلمِ.
– كيف يكونُ ذلك يا أخي ونحن لا زلنا صغارًا ولم يَحِنْ وقتُ خروجِنا بعد؟!
– أعرفُ ذلك يا سامح، لكن هناك أطفالٌ يخرجونَ قبل اكتمالِ دورةِ حياتِهِم.
– كيف يكونُ ذلك أخي؟! د
– يأتي الطبيبُ ويفحصُ بطنَ أمّي ويعرفُ أننا في خطرٍ فيتدخلُ ويُخرجُنا.
– إن كان ما تقولُ صحيحًا أخي أرجوك اضربْ بطنَ أمي بقوةٍ فلمْ أَعُدْ أستطيعُ مقاومةَ الموتِ.
– أمي أرجوكِ استيقظي إنَّ أخي سامح يختنقُ.
– إني لا أسمعُ ما تقولُ يا محمد.
– أخي يختنقُ أرجوكِ أمي اذهبي بسرعةٍ للطبيبِ حتى يُخرجَنا.
– لا تخفْ بني! أنا في طريقي للمشفى كي يفحصني الطبيب ويخرجُكما اطمئن بني.
– قال سامح: أشعرُ إنّي اختنقُ، سأموتُ قبل أن تصلَ أمي إلى المشفى!
– أرجوك لا تتحدثْ عن الموتِ! تشبثْ بالحياةِ، قاوِمِ الموتَ! لا تجعلْهُ يصرعُكَ، اقتلهُ قبلَ أن يقتلَكَ!!
– أخي لم يبقَ لي مكانٌ في الحياةِ ولن أرى النورَ خارجَ هذا النفقِ المظلمِ، وصيتي لكَ لا تنساني، سنلتقي يومًا في حياةٍ أخرى!
– آهٍ يا أخي كيف تتركُني وحيدًا ونحن كنَّا جسدًا واحدًا في بدايةِ التّكوينِ؟!
– وداعًا يا توأم روحي إنّي أرحلُ وأرى نفسي طيرًا في جنانٍ خضراءَ!
ارتختْ يداهُ وسقطَ جفناهُ على عينيهِ وسلَّمَ روحَهُ للهِ ورفرفَ بجناحيهِ عاليًا وصارَ طيرًا من طيورِ الجنَّةِ.
– آهٍ من وجعِ القلبِ، رحيلُكَ أخي فَطَرَ قلبي الموجوعَ، كيف لي أن أعيشَ الحياةَ بعد رحيلكَ يا نصفي الآخر؟!
أعرفُ أنكَ في خطرٍ! لكن طبيبَ الأجنةِ هو الذي جعلني أتخذُ القرارَ الخطأَ، لن أسامحَهُ ولن أسامحَ نفسي! سامِحْني يا سامح كنتُ أريدُ لكَ الحياةَ لا الموتَ! كان موتُ سامح له أثرٌ كبيرٌ على نفسيةِ الطبيبةِ خولة التي كادتْ أن تنسى توأمهُ محمد لولا صراخه الذي أعادَ لها التوازنَ وكأنّه يودُّ أن يقولَ لها: أخرجيني حتى أرى أخي سامح لعلّي أعانقُه! تمَّ إخراجُ محمد، وتمَّ إنقاذُهُ ونجا من الموتِ. اختلطتِ المشاعرُ بين الفرحِ والسعادة وسادَ الحزنُ على رحيلِ هذا الملاكِ الصغيرِ.
صرخَ محمد لكنَّ صوتَهُ انحبسَ داخلَ صدرِهِ، وأطلقَ تنهداتٍ بائساتٍ من فؤادٍ مثقوبٍ، كانتْ فرائصُهُ ترتعدُ، يتأمَّلُ وجهَ أخيه المدفونَ في شلالاتِ الدَّمِ وعيناهُ مغمضتانِ، بكى بكاءً شديداً على أخيهِ، حتى أعياهُ التّعبُ ونامَ بجانبِ جثةِ أخيهِ المُسجَّى في الحُجْرةِ المُلاصقةِ لحجرتِهِ والتي لا يفصلُ بينهما إلا غشاء رقيق من اللحمِ، كان يودُّ أن يشقَّ هذا الغشاءَ ليعانقَ أخاه لكنَّهُ عجزَ عن ذلك.
خلالَ لحظاتٍ قصيرةٍ ارتدتِ الأمُّ ثيابَها وأيقظتْ زوجَها وذهبا معًا إلى المشفى وما إن وصلا المشفى حتى أُدخلتِ الأمُّ إلى قسمِ الطَّوارئِ وتمَّ فحصُها على الفَورِ لكنَّ الوقتَ تأخرَ، شَخَصَتْ عينا الطَّبيبِ على جهازِ الفحصِ لا يُصدِّقُ ما يراهُ، قال لنفسِهِ: هل يُعقلُ أنَّ الجهازَ لا يُعطي تشخيصًا صحيحًا؟ عليَّ أن أعيدَ الفحصَ مرةً أخرى، أعادَ الفحصَ مراتٍ عديدةٍ لكن النتيجةَ لم تتغيرْ، يا لهولِ ما رأتْ عيناه، يا لهولِ المفاجأةِ! لقد ماتَ سامحٌ وغدتْ حياةُ محمد في خطرٍ، هرعَ الأطباءُ وأُدخلتِ الأمُّ لغرفةِ العملياتِ وخضعتْ لعمليةٍ قيصريةٍ، شقَّتِ الطَّبيبةُ النسائيَّةُ بطنَها وأخرجتْ سامح، رأتْ وجهَهُ الملائكيَّ وبدا لها أنهُ نائمٌ، ولم تشكْ في وفاتِهِ إلا بعدما رأتِ الدِّماءَ المتجلطةَ فوقَ الحبلِ السّريِّ، رجفتْ يداها، أصابَها الارتباكُ لهولِ الحدثِ، تنظرُ إلى سامحٍ وتؤنبُ نفسَها وتقولُ: أنا مَن قتلتُكَ يا سامح! لماذا لم أُخرجكَ قبلَ أسبوعين؟! كنتُ أعرفُ أنكَ في خطرٍ! لكن طبيبَ الأجنةِ هو الذي جعلني أتخذُ القرارَ الخطأَ، لن أسامحَهُ ولن أسامحَ نفسي! سامِحْني يا سامح كنتُ أريدُ لكَ الحياةَ لا الموتَ! كان موتُ سامح له أثرٌ كبيرٌ على نفسيةِ الطبيبةِ خولة التي كادتْ أن تنسى توأمهُ محمد لولا صراخه الذي أعادَ لها التوازنَ وكأنّه يودُّ أن يقولَ لها: أخرجيني حتى أرى أخي سامح لعلّي أعانقُه! تمَّ إخراجُ محمد، وتمَّ إنقاذُهُ ونجا من الموتِ. اختلطتِ المشاعرُ بين الفرحِ والسعادة وسادَ الحزنُ على رحيلِ هذا الملاكِ الصغيرِ.
