فصل من رواية(باباس) للروائي أحمد أبو سليم

المدارِج

“لقد وُلدتُ كهلاً حين أَتيتُ إلى الوجود”

سورين كيركيغارد

مرَّت بخاطري هذا الصَّباح ثلاثُ صور للموت: موت سقراط بالسمِّ، ومجموعة من ضحايا مجزرةٍ ما، سودِ البشرة، دفنوا في قبر جماعيٍّ أُميط عنه اللِّثام مؤخَّراً، وصورة رجل لا أَعرفه قُدِّر لي في طفولتي أَن أَراه يُقتل بثلاث رصاصات أَمام بوَّابة المسجد الحسينيِّ الكبير لسبب لا أَدريه، وظلَّت صورته وهو يموت عالقةً في مؤخِّرة رأسي، حتَّى قلبت حياتي بعد ذلك رأساً على عقب.

حين نمعن في طرد ذكرى ما من رؤوسنا، تستوطن فيها، وكأَنَّنا حين نحاول محوها ننقشها بإزميل هناك، فتبقى عالقةً فيها إلى الأَبد.

في العتمة تكبر الظِّلال حين يلوح ضوء عابر من بعيد، وتتشكَّل بطريقة أُخرى، مرعبة، تقترب وتبتعد، تدور حول نفسها، ثمَّ فجأَة تتلاشى..

لم أَعد أَشكُّ لحظة واحدة أَنَّ الحياة كانت دائماً مجرَّد ظلال خادعة، تتراقص فوق الجدران، نركض خلفها لاهثين، نحاول أَن نمسك بها بأَصابعنا، ثمَّ فجأَة يتلاشى الضَّوء فتتلاشى، وتصبح جزءاً من العتمة، أَعني عتمتنا الَّتي تقبع في أَعماقنا، ونجد أَنَّنا نمسك بفراغنا، نتشبَّث به، نعتقد أَنَّه ملاذُنا الأَخير.

هل يوجد موت أَكثر رحمة من موت؟ أَم إنَّ الموت هو الموت؟ ما الفرق بين الموت الفرديِّ والموت الجماعيِّ؟ هل يكون النَّاس أَكثر اطمئناناً حين يموتون جماعات، وأَكثر وحشةً حين يموتون وحيدين بعيداً دون رفيق ولا عزاء؟

في زمن ما، يتعرَّى البشر من ثوب الفضيلة، ولا يعود ثمَّة من هو قادر على أَن يتشدَّق بها أَمام الآخرين، أَو حتَّى أَمام نفسه.

الحياة رهان خاسر، ونحن بالذَّات من يدفع ثمن هذا الرِّهان، أَعني نحن كلاب الأَثر، الَّذين فقدوا حواسَّهم وما عاد ثمَّة في الحياة بالنِّسبة لهم سوى رائحة واحدة، هي فقط ما يبرِّر استمرار وجودهم ما داموا قادرين على تتبُّعها، وحين يعجزون عن ذلك يشيخون، ويصبح قتلهم واجباً، الكلاب تتقاعد من الحياة، تشيخ، وتقتل، والخيل كذلك، والأُسود، والذِّئاب، فلماذا لا نقول إنَّ الإنسان شاخ في مرحلة ما، وإنَّه لم يعد صالحاً للحياة، وإنَّ قتله يصبح واجباً إنسانيَّاً لا بدَّ منه لكي تكتمل دورة الحياة؟

جاء في العهد القديم:

8 فقال الربُّ للشَّيطان: هل جعلتَ قلبك على عبدي أَيُّوب؟ لأَنَّه ليس مثله في الأَرض، ومن التمشِّي فيها. 9  فأَجاب الشَّيطان الربَّ وقال: هل مجَّاناً يتَّقي أَيُّوب الله؟”.سفر أَيُّوب

ربَّما لم يعد ثمَّة من يتَّقي الله مجاناً اليوم كما قال الشَّيطان ذات يوم.

تمرُّ حافلات السيَّاح في المكان، وسرادق يقف مثل تمثال عتيق شُيِّد منذ آلاف الأَعوام في الدَّير، فوق جبل نيبو، لا يكلِّم أَحداً إلاَّ ما ندر، يدورون في أَنحاء الدَّير مع هيلين الَّتي تشرح لهم تاريخ الدَّير الَّذي لا يعرف له أَحد تاريخاً واضحاً، تستعرض الملامح الرُّومانيَّة، واليونانيَّة، والبيزنطيَّة الَّتي تُركت على كلِّ جدار، وكلّ سقف، وقوس، وعمود، وتاج، وكوَّة، وحجر، فوقهم، أَو تحت أَقدامهم، تُجري كثيراً من المقارنات، وتستعرض تاريخ الرَّهبنة فيه، وفي كتب التَّاريخ، ومعجزات السُّرادق فيه، وآخرهم هذا السُّرادق الماثل أَمام الزَّائرين صامتاً يحدِّق إلى الوجوه كأَنَّه يبحث عن شيء ضائع فيها.

هنا، فوق هذا الجبل، في هذه البقعة بالذَّات، قتل قابيل هابيل، ودفن الغراب شقيقه الغراب، تقول هيلين، وما الدَّير إلاَّ محاولة دائبة للسَّعي نحو الغفران.

أَيَّام الآحاد بالذَّات، يسعى البشر من كلِّ حدب إلى الدَّير، مسلمون ومسيحيُّون، يطلبون الشِّفاء من سرادق: الأَعمى، والأَعرج، والمصابون بكلِّ الأَمراض، يمسح على جراحهم بالماء المقدَّس، يقرأُ تعاويذه عليهم وأَدعيته وما تيسَّر من الكتاب المقدَّس، ثمَّة من يأتي على كرسيٍّ مدولب ويعود ماشياً على قدميه.

سُرادق هو الَّذي وهب سلام ذات يوم بذرة الحياة، منذ سنوات، وزرع مريم في رحمها.

جاءت بها من الفراغ، من رحمٍ أَبيضَ لا حياة فيه، لم تكن مصادفة أَن تقابل هيلين في كنيسة مار يوسف ذات يوم، وتقنعها هيلين بأَنَّ سرادق يصنع المعجزات، وتنصحها بالحضور إلى الدَّير، ليمرَّ سُرادق على بطنها بكفِّه، فيشعل في أَحشائها النَّار.

يومذاك لم تصدِّق معجزة حملها.

كانت قد تزوَّجت من توما توما، صاحب بار توما الَّذي يقع قرب الدوَّار الأَوَّل، في جبل عمَّان، تعرَّفت إليه في الجامعة، يوم كانت تدرس اللُّغات القديمة، هو ترك الجامعة ولازم البار بعد موت أَبيه توما، وهي أَنهت دراستها وتزوَّجته، ولم تترك طبيباً منذ زواجها إلاَّ وزارته، وكانت إجابات الأَطبَّاء لا تتغيَّر، يبدؤون متحمِّسين وينتهون يائسين.

حين قابلتِ السِّستر هيلين في الكنيسة، بدا الأَمر مجرَّد مصادفة فقط، أَن تجلس امرأَة إلى جانب امرأَة أُخرى، وأَن تتبادلا أَطراف الحديث، فيقود ذلك إلى الحديث عن الرَّهبنة، ثمَّ الحنين إلى الولادة، والزَّوج، والبيت، والحياة خارج الثَّوب الأَسود وغطاء الرَّأس، خارج أَسوار الله، هناك، في مملكته المترامية الأَطراف، يومذاك شكت لها سلام عقمَها، وما يجري بينها وبين الأَطبَّاء، كانت في السَّادسة والعشرين من عمرها آنذاك.

ربَّما ضحكت سلام في أَعماقها بتهكُّم، ربَّما لم تكن مقتنعة لا بسرادق ولا بمعجزاته، لكنَّها مع ذلك وافقت على الذَّهاب، كانت مثل غريق يتمسَّك بآخر قشَّة طافية على الماء لعلَّها تنقذه من الموت.

أَغمضت عينيها، وتمتمت بصلاتها وهي تبكي، وحين حملت لم تصدِّق حملها، بكت كما لم تبك يوماً من قبل.

توما زوجها أَيضاً لم يصدِّق حملها، في قرارة نفسه كان قد شكَّ بنفسه وبها، واتَّهمها في سرِّه بالعهر، لكنَّ أَحد الأَطبَّاء أَخبره أَنَّ أَمر حملها أَشبه بمعجزة بالفعل، لاَنَّ العلَّة فيها لا فيه، ومع ذلك لم يستطع أَن يتخلَّص من وساوسه، وأَن يتعايش مع الأَمر، أَصبحت نظراته لها مختلفة، ما كان يجعلها بين الحين والآخر تثور في وجهه، وما حوَّل حياتهما معاً في مرحلة ما إلى جحيم.

كأَنَّ مريم كانت لعنته الَّتي لا تنتهي.

سرادق عمَّد مريم بنفسه، راح يتحسَّس جسدها الغضَّ بأَصابعه النَّحيلة.

صارت تحمل مريم معها إلى الدَّير بعد أَن بلغت الرَّابعة من عمرها، مرَّة على الأَقلِّ في الأُسبوع، يوم الأَحد، كان يضعها في حضنه، فتشعر هي بالانقباض والخوف، يغريها، يعطيها تفَّاحة حمراء أَو قطعة من الشُّوكولاتة، تشعر بالخوف، يهدِّئ من روعها، يبتسم لها، يضمُّها أَكثر، فيه شيء سحريٌّ يسيطر عليها، يسرقها من نفسها، ويجعلها دائماً مستسلمة له.

سحر سُرادق لا يضاهيه سحر على الأَرض، جاذبيَّة ما كانت تشعُّ من جسده، تجذب إليه البشر والأَشياء، مثل مغناطيس يجذب إليه المعادن، عيناه زرقاوان فيهما نظرة غريبة، وجهه متغضِّن، لحيته طويلة بيضاء، وشارباه كذلك، طويل القامة، محنيُّ الظَّهر، رشيق في مشيته رغم سنِّه، لا يسير داخل الدَّير إلاَّ حافي القدمين.

هل كنَّا حقيقيِّين بالفعل؟

مرَّت السِّلسلة الغذائيَّة عليَّ ذات يوم، في المدرسة، حين كنتُ طفلاً، مرور الأَكرمين وكأَنَّها قدر لا مناص منه، إذ لم يكن ثمَّة ما يلفت الانتباه في واقع نعيشه ولا بديل عنه، أَن يكون ثمَّة من يعيش على موت الآخرين، وثمَّة من يموت كي يبقى الآخرون على قيد الحياة.

هنا، ربَّما عاش رهبان بالعشرات ذات يوم، أَو بالمئات، فوق رأس هذا الجبل، يدلُّ على ذلك كلُّ تلك الأَطلال المحيطة بالدَّير، والَّتي تمتدُّ على مساحة واسعة فوق الجبل، وما تبقَّى منها سوى القليل، ما تمَّ ترميمه في وقت لاحق من الأَبنية: الكنيسة، والمزار الَّذي يقبع أَسفلها، وبيت الرُّهبان، ومبنى للخدمات، والمكتبة، وثلاث صوامع متجاورة قوسيَّة السُّقوف، ومبنيَين آخرين كانا مخصَّصَين لتربية الحيوانات ذات يوم، والسُّور الَّذي يرتفع لأَكثر من خمسة أَمتار.

تستقبلنا هيلين بابتسامتها العريضة، وتقودنا إلى الأَب سرادق الَّذي كان دائماً يجلس تحت شجرة بعينها، لا تورق أَبداً، تبدو كأَنَّها شجرة ميتة لا أَكثر، تقع أَمام الكنيسة تماماً، يجلس تحتها بالذَّات،على الرغم من كثرةِ الأَشجار الخضراء الوارفة الَّتي تملأُ المكان، نصعد الدَّرج الحجريَّ العتيق من المدخل الحجريِّ العالي الَّذي يعلوه قوس حجريٌّ، يعلوه صليب معدنيٌّ، تحفُّ بنا الأَشجار من الجانبين، نصل لاهثين إلى باب الكنيسة، إلى اليمين خمس درجات تصعد نحو الصَّوامع الثَّلاث، وإلى اليسار بيت الرُّهبان والمكتبة، أَمام بوَّابة الكنيسة بالضَّبط يجلس سرادق، تحت الشَّجرة الجرداء الًّتي لا حياة فيها.

تبتسم له أُمِّي، وتلومه وهي مقبلة نحوه.

من كان فينا جميعاً أَكثر غموضاً من سرادق!

تنحني وتقبِّل ظاهر كفِّه، يلمس مؤخِّرة رأسها، ثمَّ يرسم إشارة الصَّليب على صدره، أَتقدَّم نحوه وأَفعل مثلما فعلت، كنتُ في الرَّابعة أَو الخامسة من عمري أَيَّامذاك، تتركنا هيلين، تعتذر منَّا وتمضي نحو الكنيسة، هيلين ربَّما كانت ذات يوم أَجمل نساء الأَرض.

تشير أُمِّي نحو قافلة من نمل غريب الشَّكل، أَسود، مجنَّح، يخرج من جذور تلك الشَّجرة..

أَكثر ما يلفتُ الانتباه في الدَّير كثرة الغربان على الأَشجار فيه، وأَصواتها الحادَّة الَّتي تطلقها بين الحين والآخر.

صرتُ أُرافق أُمِّي أَيَّام الآحاد إلى الدَّير، ثمَّ اكتشفتُ أَنَّني مسلمٌ، من أَب مسلم، وأَنَّ صلاتنا نحن صلاة مختلفة، كانت جدَّتي تحاول أَن تشرح لي في طفولتي معنى أَن أَكون مسلماً، وطريقة وضوئنا وصلاتنا، فأَعتقد أَنَّها تتحدَّث عن شيء غامض، وحين بدأتُ باكتشاف هويَّتي الدِّينيَّة، كنتُ قد تعلَّقتُ بمريم.

“ما كان كان، لكنَّ ما كان لم يكن في الحسبان!”

Exit mobile version