نزار عبد الستار.. صناديق الشاي سرديات الاستعمار

الأدميرال لايحب الشاي

علي حسن الفواز

تظل العلاقة مابين التاريخ والسرد مثار جدلٍ مفتوح، ومساءلة دائبة الاستنفار، ليس لأن التاريخ قارّ في مدوناته، وفي نمط كتّابه، وأن السرد هو محاولة للعبث به، أو التجاوز عليه، بل لأن ما يتمخض عن هذه الثنائية هو التمظهر الذي يكشف عن المختلف حول ماهو تاريخي كخبر أو معلومة أو حدث، وحول ماهو سردي في سياق ما تستدعيه لعبة التخيّل، وفي التمثيل الايدولوجي، والكشف عن المضمر والمقموع، أو الايهام بوجود علائق “مسكوت عنها” تجعل منها السرد اكثر فاعلية في التعبير عن ما هو استثنائي في ذلك التاريخ. رواية “الأدميرال لا يحب الشاي”للروائي نزار عبد الستار الصادرة عن دار الساقي/ بيروت، تضعنا أمام هذه اللعبة الساحرة، وفي سياق كشوفاتها لحدثٍ، قد يبدو معروفا في تاريخ الصراع البريطاني الصيني في العام 1840 وما سمّي ب “حرب الافيون”، حيث أرسلت بريطانيا قواتها إلى الصين لإجبارها على توريد الأفيون، لكنّه مجهولا في سرديات ما تتداعى فيه من صراعات فاجعة. هذا الحدث الواقعي، اصطنع له الروائي فضاء سرديًا مجاورا، تغيّرت معه كثيرا من سياقات الاحداث، عبر خرق المألوف والسياق فيها، كاشفا من خلالها عن صراعات عميقة، ذات بعد انثربولوجي، ونفسي، انخرطت فيها شخصيات غرائبية، وملفقة، استثمرت لعبة السرد وتقانتها، لتؤدي ظائف أخرى في تمثيل تلك الصراعات، وكتابة يوميات أخرى، للمدن  لندن، كلكتا، البصرة” وللشخصيات المتعددة، فبقدر ما تنطوي الرواية على احداث وصراعات غامضة وخفية، فإنها كانت تُرهِص من جانب آخر بتحولات فارقة، جيوسياسية، وتاريخية، تشكّلت معها مرحلة الاحتلالات الاستعمارية الغربية، مع مقدمات أوحت بتقوّض الحكم العثماني في العراق، فكان بدء هيمنة “الشركات التجارية الاستعمارية” ومنها شركة “الهند الشرقية” هو البدء الاستحواذي لهذه الاستعمارات، وللسيطرة على مصادر الثروات والممرات التجارية. لا يدخل استثمار التاريخ في هذه الرواية من باب التلويح بتلك الاحداث فحسب، بل من باب جعل تلك الاحداث مجال سردي، لقراءة الهامشي في ما يخصّ تاريخ العراق، عبر اصطناع الحدث، والثيمة، والزمن، والمكان، وكذلك عبر سردنتها للشخصية المحورية، المضطربة، التي تعيش عقدة الهوية، لتكون هي البراديغم “مابعد الكولنيالي” الذي يمّثل نقد تشوهات ذلك التاريخ واحداثه، من خلال جعل ازمتها ورهابها الشخصي، عتبة لتوصيف علاقة التاريخ العراقي بشخصية الطاغية، وبما تعيشه مُقنعة بهوية مصطنعة، مزيفة في وجودها، وفي علاقتها، وكأن الروائي اراد أن يضعنا امام انثربولوجية “التاريخ الزائف” الذي تصنعه شخصيات انتهازية وطفيلية، تعتاش وتتضخم من خلال اوهام تمثيلها الآخر، ومن خلال تحولها الى شخصيات فائقة، في غرائبيتها، استثمر الروائي تقانة الرواية البوليسية ورواية “الاكشن” لتغذية روايته بالترقب والتوتر والاثارة والمفارقة. الشخصية وتشظي السرد قد تبدو الرواية معنية بشخصية بطلها “عزيز لانكستر” ذي التاريخ الغامض، لكنها تجعل من تشظي وجودها تمثيلا للتشظي في لعبة السرد، إذ نجد في تشوه انتماءاته-الأب السفّان البصري، والأم الهندية، والأب المتبني الانكليزي “تشارلز لانكستر” مدير حسابات شركة الهند الشرقية” والزوجة الهولندية ماريكا، تمثيلا لأنموذج شخصية “ الهجين” المستبد، ولشخصية المؤسسة المستبدة التي يدعّي أنه بطلها، بالقول: “أنا شركة الهند الشرقية” تمثيل بنية الاستبداد/ الاحتلال في مرحلة لاحقة، تتبدى ملامحها من خلال خلال شخصية “لانكستر” المتشظية، والطفيلية، والمستعدة لارتكاب اكثر الجرائم خطورة، في القتل وتقطيع اوصال الهنود وفي بيع الأفيون الى الصينيين، وتقديم الولاء للتاج البريطاني، وكذلك من خلال شخصية “شركة الهند الشرقية” التي تم تأسيسها ل”تدمير الصين” كما يقول الانكليزي تشارلز، فضلا عن الادوار المريبة التي لعبتها في التجارات المشبوهة، بما فيها تجارة البشر، وتحكمها بمسارات الاقتصاد والأمن والسياسة في شرق وغرب اسيا- العراق والهند- الصين، وتحت يافطات”استعمارية” معروفة، تحمل شعارات زائفة حول التبادل التجاري والثقافي وتشغيل العمالة وبناء الموانىء وغيرها. تحوّلت ثيمة هدية “صناديق الشاي” الى ثيمة مركزية، على مستوى تبئير الاحداث، أو على مستوى تعرية المخفي منها، ومنها ما يتعلّق بالمخفي من حياة “زيز لانكستر” المنفي من” كلكتا” الهندية، لتبدو إنتهازيته، وتشظي انتمائه بين الهوية “العراقية/ الاسلامية” مدخلا لتمثيل سردية”هجنته” في تحقيق مآربه الاجرامية، من خلال عمله المشبوه في الشركة، وعبر تقنعه بقناع الادميرال الفرنسي رينيه ديدور الذي قتله وسرق ملابسه، مهووسا بتحقيق الاهداف التي رسمتها له “المقيمية” خدمة لمصالح بريطانيا العظمى.

هذه الثيمة افتحت في سرديتها، لتُتيح للروائي أن يتقصى احداثا ذات طابع انثربولوجي، إذ عمد الى العمل على جعل “الشاي” وهو رمز للمستعمرات البريطانية، متفوقا في أثره كحافز لتغيير عادات البصريين، على حساب استهلاك”القهوة” كرمز للهيمنة الهولندية، من خلال نشر الحوانيت في المدينة، والبيع باسعار مناسبة والترويج لها من خلال توظيف النساء، وبعض الشخصيات الهامشية، وتحت اشراف الزوجة الهولندية، وبعض ابناء عشيرة آل سفان التي ينتمي اليها “زيز لانكستر”. هذا الخلط هو تمثيل للشخصية المضطربة التي تحاول تأكيد وجودها الانتهازي، ومركزيتها البشعة، من خلال السيطرة الرمزية على “اعدائه” وتمثيل شراهة العقل الاستعماري في فرض وجوده في السوق، وفي العرض، وفي تحويل الأمكنة الى عتبات تجارية لنشوء هيمنة الاستعمار في المنطقة.

نهاية المستبد النهاية الدرامتيكية لشخصية “زيز لانكستر” لها موحيات متعددة، تتمثلها فكرة نهاية أيّ مستبد، وعلى أيدي ضحاياه، ونهاية للدور الذي قام به خدمة للتاريخ البريطاني بعد استنفاذ غرضه، وربما هو انتهاء سردي جعله الروائي مثيرا، وصادما لتوقعات القارىء وفضوله.

المسدس الصيني الذي رفعه تشينغ بوجه”زيز لانكستر” بغضب مرتجف مع القول بأن:” هذا لأجل الصينيين الذين قتلتهم بالأفيون سيدي الأدميرال” يكشف عن لا وعي آخر الصراع بين الرمزين- البريطاني والصيني، فبقدر تردد القاتل الصيني، فأنه وضعنا أمام احتمال الحدس الذي ظل يعيش مع “زيز لانكستر” بأن قاتله ستكون بريطانيا التي لن تسامحه على جرائمه، لأن الهجين الذي يتلبسه لا يصلح أن يكون صانعا للتاريخ، فالتاريخ لعبة “ مستريحة” يصنعها ليس المنتصرون فقط، بل الذين لا قلق لديهم من الآخر. لا تعني النهاية الافراضية للمستبد والقاتل والمغامر موت المغامرة، ولا الاستبداد، واحسب أن عدم اطلاق النار قد توحي لنا، بإن العالم في شكله الاستعماري أو السلطوي، والذي يتصارع من اجل مصالحه يمكنه أن يصنع طغاة ومستبدين وكائنات هجينة أخرى، لا وظيفة لها سوى التمركز داخل النسق المهيمن، والقيام بوظيفة قتل الآخر المختلف، حماية لوجودها وحساباتها ومصالحها.. الخبرة والتقانة الروائية يرسم لنا نزار عبد الستار المولع بسرديات الوثائق والاحداث عالما تتمثله خبرته ومهارته، في مقاربة التاريخ عبر السرد، وفي اعادة قراءة التاريخ عبر الحفر في مستوياته العميقة، ليس للكشف عن المقموع فقط، بل لاستثارة التخيّل بوصفه فاعلية تكشف عن جدّة وعي الروائي في تحويل الخطاب الروائي الى مجال معرفي، وتواصلي، وبما يجعل من__ثيمة أي حدث عابر بؤرة توليدية لاستقراء عوالم تمس الحاضر، فيستدعي لها “الحيل النسقية” و” الفاعلية النسقية” بتوصيفات النقد الثقافي، لتقويض الزمن التاريخي، عبر الزمن السردي، واعطاء الحيلة النسقية وظيفة للكشف عن التوليدي في ذلك الزمن، عبر خبرته في تشكيل وحدات بنائية سردية، يتناظر فيها السرد مع التااريخ، وتجاوز في تأليفها تمثلا السرد التقليدي، الى ما يمكن تسميته بتقنية الاستدعاء، حيث يتحول الحدث التاريخي الى حدث توليدي، فشخصية “عزيز” الهجينة، قد تكون قناعا لأي شخصية مستبدة، طاغية، تنبجس من التاريخ المشوه، لتؤدي ذات الوظيفة الاسطورية في قتل الآخر بطرق غرائبية، لها احالاتها الرمزية والتعويضية، مثلما أن اشباعاته الجنسية تتجاوز المحدود، لتبدو شراهته الى الآخر هي شراهة الامتلاك، بما فيها امتلاك العدو- زواجه من الهولندية صاحبة الحانة ماريكا- فضلا عن نزوعه الى التمركز في الاحداث، للإيحاء التعويضي بفكرة البطولة، ولتبدو ثيمة المغامرة والمطاردة والقتل وحدات يتم عرضها لغرض الايهام بتكامل بناء الشخصية المستبدة، ولغرض ادلجة وجودها في تمثيل فكرة”الهجنة” التي لا يريد أن ينفيها، ولا أن يتخلص منها، لأن تكوينه الطفيلي يجعله متسلقا وانتهازيا لكي يؤدي وظيفة الباحث عن ذلك الاكتمال.. تقانة بناء “رواية الشخصية” من اصعب الخيارات، لأن متابعة ومراقبة هذه الشخصية في الزمن والمكان الروائيين، والتعرف على تحولاتها من الأمور المعقدة، تتطلب مهارة في التعاطي مع علاقتها بالحدث بوصفه وجودا داخل خارطة الاسرار، لكن هذه الشخصية التي يقترحها الروائي لا تتحرك في فراغ، إذ يكون السياق أو المكان أو البيئة هي “المجال” التوليدي الذي تؤدي من خلاله وظائفها، والكشف عن نزوعها

الاجرامي والاستبدادي، ف”شركة الهند الشرقية” ذات الطابع الاستعماري” تتحول هي الأخرى الى بيئة تمثيلية، والى بؤرة موازية، تجذب اليها الصراعات التي تنفذها الشخصية المحورية، لغرض تحويلها الى سرديات قاتلة، سرديات تتسع مع تحولات الوظائف التي تؤديها تلك الشركة في تجذير مهيمنات المركزة والسيطرة والاستحواذ وتحويل الاخرين الى ادوات تنفيذ سياسات استعمار الشرق وقيادة العالم التي فرضتها بريطانيا في القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين.

Exit mobile version