عديلة شاهين
لجنان كاظم من بغداد، ابنتان(شيرين و آيات)مصابتان بمرض التمثيل الغذائي من نوع( pku)
الذي يُعرف بأنه اضطراب وراثي نادر يجعل الاطعمة العادية سامة للدماغ، يصيب الأطفال
بأعمار مبكرة ويتسبب لهم بأعاقات عصبية دائمة أو يكون مميتاً في حال لم يتم تداركه بحليب
واطعمة خاصة مع علاجات على مدى الحياة.
تجربتها معهما، ومعاناتها التي كابدتها في الحصول على الحليب الطبي غير المتوفر
في الأسواق والذي توزعه وزارة الصحة بنحو غير منتظم وكذلك ندرة الفحوصات
والعلاجات والتخصص الطبي، جعلت منها ناشطة وممثلة عن مرضى التمثيل الغذائي
في العراق.
معدة التحقيق حاولت عبر تواصلها مع وزارة الصحة وأطباء متخصصين معرفة
إحصائية دقيقة بإعداد المصابين بأمراض التمثيل الغذائي، لكنها لم تجد إجابة دقيقة،
وقد رجح ناشطون وذوي مرضى ان سبب ذلك يكمن في عدم وجود بيانات متكاملة
وعدم تسجيل جميع الحالات في المراكز الحكومية.
وهم يجمعون على ضرورة قيام الجهات الصحية الرسمية بإعداد قاعدة تتعلق بالمرض،
وتعمل على تعزيز الوعي بكيفية التعامل معه وبدء العلاج مبكراً والإستمرار عليه لتفادي
الاعاقات الذهنية والجسدية الأخرى أو حالات الوفاة.
الفينيل كيتون يوريا Pku
الطبيب الإستشاري المتخصص بطب الأطفال طريف فاضل، يعرف الاضطرابات
الاستقلابية الوراثية لدى الأطفال(أمراض التمثيل الغذائي) بأنها تحدث نتيجة وجود
خلل في جين معين يؤدي إلى نقص في إنزيمات الجسم”.
ويقول بأن هنالك المئات من الاضطرابات الأيضية الجينية المختلفة وأعراضها
وعلاجاتها متباينة: “لكن معظم اصابات الاضطرابات الاستقلابية الوراثية في العراق
هي من نوع فينيل كيتون يوريا Pku”.
ويعرفه بأنه:”مرض وراثي نادر ينتج عن خلل في الجين المسؤول عن تكوين الإنزيم
اللازم لتحويل الحمض الأميني الفينيل ألانين إلى الحمض الأميني تايروسين المهم في
تكوين النواقل العصبية”.
ويشير إلى أن الضرر الناجم عن الفينيل كيتون، يمكن أن يبدأ بعد أسابيع من بدء
الطفل في شرب حليب الثدي أو الحليب المجفف وهذا “يؤدي إلى تراكم الفينيل ألانين
في سوائل الجسم والدماغ ويسبب مشاكل ومضاعفات صحية عديدة، وقد يتأخر التشخيص
عند عدم اجراء فحص الغربلة لحديثي الولادة مما يؤدي الى تلف في خلايا الدماغ وتكون
شدته أكثر كلما تأخر التشخيص”.
ويذكر الطبيب بأسف:”لا يوجد علاج نهائي لمرض الفينيل كيتون يوريا، ولابد من اتباع
نظام غذائي يتضمن أطعمة لاتحتوي على الفينيل ألانين، مما يعني الأطعمة يجب أن
تكون منخفضة البروتين وتجنب الغنية به مثل الحليب العادي، البيض، الجبن،
المكسرات، البقوليات، واللحوم بكل أنواعها”.
ويرى بأن النظام الغذائي والطعام الخاص، لابد أن يكون نهجاً متبعاً على مدى
الحياة:”صارماً في السنوات الأولى من عمر الطفل وهي الفترة التي تشهد نمو الدماغ
وبناء قدرات الطفل الذهنية والعقلية و بخلاف ذلك فأن زيادة الحمض الاميني تؤثر
على الدماغ و فعالياته”.
ويبين:”بما أن الفينيل الانين جزء من البروتين و يتواجد في الحليب و الطعام الغني
بالبروتين مثل اللحوم والبيض ومشتقات الألبان لذا يخضع المريض لبرنامج غذائي
خالٍ من هذه المواد و تعويضه ببروتين منزوع الفينيل الانين على شكل حليب خاص
وأغذية خاصة”.
المتخصص بالأمراض العصبية والعوق العصبي لدى الاطفال د. رائد جبار حسين،
يوضح:”عندما يعاني الرضيع أو الطفل من اضطراب استقلابي تكون المواد الكيميائية
المستخدمة في عملية التمثيل الغذائي اما مفقودة أو لا تعمل بشكل صحيح”.
ومع أنه يتفق بأن أكثر انواع الامراض الاستقلابية شيوعاً لدى الاطفال في العراق هو
“مرض الفينيل كيتون يوريا”، إلا أنه يؤكد بأن هنالك أمراضاً أخرى مشخصة:”تتشابه
أعراضها مع أعراض مرض الفينيل كيتون يوريا، من امثلتها- تيروزينيميا_
كالاكتوسيميا_نقص انزيم اللوسين Isovaleric”.
وزارة الصحة العراقية، توفر حليباً طبياً يحظر استيراده و تداوله في السوق، وتوزعه
بأسعار رمزية على المرضى وفقاً لفحوصات مخبرية حديثة تبين حالة كل مريض.
كما يتوجب على المرضى الذين تتجاوز أعمارهم مرحلة الرضاعة، تناول أطعمة خاصة
كما أوضحها الطبيب طريف، وهي ليست في متناول جميع أهالي المرضى بسبب غلاء
أسعارها، كما أن وزارة الصحة لاتوفر الحليب بنحو مستمر، وهو يباع خلسة في
السوق السوداء بأسعار مرتفعة.
تكاليف باهظة
وليد مجيد(30 سنة)موظفي حكومي من منطقة المنصورغربي بغداد، لم يكن أمامه
من خيار لإنقاذ ابنته أنوار(12سنة) المصابة بمرض التمثيل الغذائي(mma) سوى
السفر المتكرر الى بيروت لإجراء الفحوصات اللازمة لها هناك مع توفيرالغذاء الخاص.
ويقول:”هنالك توجد أجهزة فحص مختبرية متخصصة، ولفئة ابنتي المرضية نظام
وجدول تغذية يجب اتباعهما ونظام طوارئ للحالات الحرجة”.
وذكر بأن رسم الكشف الطبي في لبنان يبلغ 190 دولاراً( 246ألف دينار )
و 2500 دولار( 3،250،000مليون دينار)أجور للفحوصات المختبرية التي يقول
بأنها ضرورية لأن العلاج والنظام الغذائي يحددان في ضوئها، كما أن أنوار تحتاج
إلى علاج (الكارنتين) بكمية شهرية تبلغ 5000 ملغ، يصل سعرها إلى بقيمة 175
دولار(227 ألف دينار).
ويبين:”بشكل عام التكاليف تلك مع أجور إقامة لأسبوع واحد وتذاكر طيران تبلغ
ما يزيد عن خمسة آلاف دولار”.
وفيما يتعلق بالمختبرات الأهلية يقول:”أجورها مرتفعة جداً، كما أنها ترسل عينات الدم
والد نوار، قدم طلباً إلى الشركة العامة لتسويق الدوية والمستلزمات الطبية بتاريخ
22/5/2023 لتوفير نوعية الحليب فئة(B )التي تحتاجها انوار، ويشتريها في العادة
من لبنان بسعر يصل إلى 80 دولار للعبوة الواحدة(104 ألف دينار)تحتاج إلى ثمان
عبوات شهريا، إلا ان الشركة أجابته بأن نوعية الحليب تلك غير مقرة في وزارة الصحة.
معدة التحقيق حصلت على كتاب كانت الشركة ذاتها قد ارسلته منتصف سنة 2022
إلى وزارة الصحة تطالبها بتوفير الحليب نوع Oac(a.b) وهو مخصص للأطفال
من عمر سنة فما فوق، إذ أن وزارة الصحة لاتوفر سوى الحليب نوع A المخصص
للاطفال دون السنة.
د.حسين أحمد العمار، يحمل شهادة الدكتوراه في علوم الهندسة الزراعية، يسكن
منطقة الزعفرانية جنوبي بغداد، والد الطفل علي(13)سنة المصاب بمرض الفينيل
كيتون يوريا، اختار السفر إلى إيران من أجل إجراء الفحوصات والحصول على العلاج
لأبنه، وأثناء اقامته هناك اتجه الى دراسة التغذية السليمة لمرضى التمثيل الغذائي لانقاذ
ابنه والأطفال المصابين الآخرين.
يقول:”أتواصل الآن مع أهالي المرضى عبر كروب مرضى التمثيل الغذائي، لأنني أجد
من الضروري توعية الأهل والمجتمع الطبي لأنه لا يزال هناك أطباء لا يوجهون
المرضى و لا يتم تزويدهم بطريقة التغذية الصحيحة”.
وينوه إلى أن المستشفيات ومراكز الفحص في ايران، تزود المرضى بقائمة من
الاطعمة المسموح والمحظور تناولها:”وهذه الخدمة غير متوفر في العراق لذا تتفاقم
معظم الاصابات بسبب عدم وعي الأهالي بالطريقة الصحيحة للتغذية”.
يؤكد عدد من ذوي المرضى الآخرين لمعدة التحقيق، أن بعضهم ولاسيما الميسورين،
يسافرون الى دول تعالج المرضى وتوفر لهم التحاليل والحليب المناسب، فيحصلون
هناك على إقامة دائمة بعد شرائهم عقاراً للسكن، وبموجب ذلك يتم تسجيل الطفل المصاب
لدى الجهات الصحية الرسمية، فيستلم الحليب المخصص له وتوفر له العلاجات الخاصة.
فحص الغربلة
اختصاصية التحليلات المرضية د.صفاء محمد، تقول بأن فحصاص تصفه بالمهم،
يدعى الغربلة، لابد من اجراءه على المواليد الجدد، للتحقق من “الإنزيم اللازم
لاستخدام فينيل ألانين في جسمه، وهو حمض أميني ضروري للنمو والتطور
الطبيعي”، ويخضع الطفل لهذا الفحص وهو بعمر لايقل عن 72 ساعة ولا يزيد
عن شهر واحد، “لضمان سرعة تشخيص الاصابة بالامراض”.
ووفقاً لـ د.صفاء، فأن فحص الغربلة يتضمن 13 تحليلا، ولا يتوفر منها في العراق
سوى ثلاثة تحاليل فقط،هي “الكاليكتوسيميا و الفينيل كيتون يوريا و الغدة الدرقية”
ويتم اجراؤها في مختبرات حكومية موجودة فقط في بغداد و كربلاء، والأهلية ترسل
عينات الفحص الى مختبرات في خارج البلاد.
وتوضح آلية الفحص:”تسحب أربعة نقط دم من كعب قدم الطفل، ثم ترسل إلى
المختبر في منطقة الكرداة بالعاصمة بغداد وبعد اكتشاف الحالة تتم متابعتها من قبل
مختبر الصحة المركزي” .
وتشير إلى أن تكلفة الفحص في مختبر الصحة المركزي مجاني، وذوو المرضى
يلجأون الى المختبرات الاهلية في حالات عدة هي:”عدم توفر فحص الانزيمات
الأخرى الـ 13، أو في حالة عدم توجيه الطبيب المختص بوجود مختبر حكومي،
وأحيانا لا يستقبل المختبر الحكومي الاطفال الذين تتعدى أعمارهم الشهر الواحد
لأن برنامجه محدد بتلك السن فقط”.
مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة د.مجد قاسم، توضح سبب تأخر افتتاح
مختبر للغربلة في العراق لغاية سنة 2013 بقولها:”لأن تكلفته التخمينية قليلة
لذلك فان معظم الشركات لا تقدم لتزويد هذا النوع من المختبرات بالاجهزة
الطبية، وقريباً سيتم التعاون مع شركة عالمية لتزويد مختبر الصحة المركزي
باحدث الاجهزة و اعادة تأهيله و توسعة البرنامج ليشمل العراق بأكمله وليس فقط
بغداد وكربلاء”.
كما تبين بأن طلبات قدمت إلى الوزارة لتوفير تخصيص مالي من أجل توسعة
الفحص ليشمل 20 مرضاً بدلاً من ثلاثة أمراض فقط، وذلك أسوة بكثير من دول
العالم، وهي تأمل أن تتعاون الوزارات الاخرى لمساعدة مرضى التمثيل الغذائي
من خلال توفير وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لإحصائيات دقيقة بشان اعداد
المرضى المعاقين، وتزويد وزارة الصحة بها وتوفير الاغذية المخصصة بالمرضى
من قبل وزارة التجارة.
إزاء عدم قلة المختبرات الحكومية الخاصة بالغربلة أو اقتصار الفحوصات على
ثلاثة أمراض فقط من أصل 13 مرضا للتمثيل الغذائي، لايجد ذو المرضى
ولا سيما القادرون على تحمال التكاليف سوى اللجوء للمختبرات الأهلية،
والأخيرة لاتملك تقنيات إجراء مثل هذه الفحوصات فترسل العينات إلى الخارج،
كالأردن أو ألمانيا او لبنان او إيران.
أحمد الطائي( 35 سنة )واحد من هؤلاء، وهو منتسب في الجيش العراقي من
منطقة الدورة جنوبي العاصمة بغداد، أبنه يوسف(18 شهراً) كان مصاباً بمرض
الفينيل كيتون يوريا، نصحه طبيبه المعالج بإجراء فحص في مختبر أهلي(الريادة)
في منطقة الكرادة، فاكتشف بأن تكلفته تبلغ 1500 دولاراً( 1,940.000 دينار )
لأن المختبر يرسل العينة إلى مختبر آخر في ألمانيا.
يقول:”نظرا لعدم توفر المبلغ لدي، أجريت نفس التحليل بكلفة 900 دولار
(1,168,000 دينار) لدى مختبر( ألق )بمنطقة الكرادة، والعينة أرسلت إلى
مختبر في الأردن، لكن الطبيب المعالج رفضه وأصر على اجراء الفحص
في المختبر الذي حدده وقمت بذلك بالفعل”.
ولان العلاجات أو نوعية وكمية الحليب لاتحدد أو تصرف إلا في ضوء نتائج
الفحص المخبري، كان على أحمد انتظار نتيجة الفحص في المختبر الذي أصر
عليه الطبيب، إلا أن “الصغير يوسف توفي قبل وصول نتيجة الفحص من ألمانيا
بأيام قليلة”، يقول الأب بكثير من الحزن.
مطالبات ذوي المرضى
عن مرض التمثيل الغذائي بتواصلها مع أطباء متخصصين من خارج العراق،
وجمعت الكثير من المعلومات عن اسبابه والطرق السليمة لتغذية طفلتيها المصابتين
وبالعودة إلى جنان كاظم، سنجد بأنها اعتمدت على نفسها في البحث والتقصي
(شيرين وآيات).
تقول بأن فترة تفشي فايروس كورونا عام 2020 شهدت صعوبة بالغة في العثور
على الحليب الطبي، فأنشات صفحة على فيسبوك باسم(آيات)للوصول إلى متبرعين،
وشيئاً فشيء تحولت إلى صفحة توعوية لمرضى التمثيل الغذائي على الفيسبوك،
واكتشفت بمرور الأيام اعداداً كبيرة للمصابين جاوزت 1000 طفل في عموم البلاد.
تواصلت مع ذوي الكثير منهم توجههم الى “الطرق الصحيحة لتحضير الطعام،
وايجاد بدائل عن الحليب والطعام المخصص للمرضى لعدم توفرهما وكيفية حساب
وحدات البروتين التي تختلف من مريض الى آخر”.
وعلى الرغم من حظر استيراد وتداول الحليب محليا ودوليا، إلا أن جنات، توصلت إلى
طريقة لتوفيره مع العلاج والغذاء، عبر شرائها بطريقة تقول أنها خاصة من تركيا،
وتتضمن قائمة مشترياتها الشهرية نحو عشرين عبوة حليب سعة 500 غرام،
بسعر 57 دولاراً(74 ألف دينار)للعبوة الواحدة”آيات تحتاج إلى عبوتين منها كل
ثلاثة أيام”.
وتشتري 500 غراماً من المعكرونة المخصصة لمرضى التمثيل الغذائي
بسعر 35 دولاراً(45 الف دينار)وهو ذات السعر للكيلو غرام الواحد من الرز،
بينما سعر الكيلو غرام من الدقيق فيبلغ 17 دولاراً(22 الف دينار)وحبة الدواء
الواحدة المخصصة للفينيل كيتون يوريا، تبلغ 7 دولارات(9500 دينار).
نظمت جنان، عبر حسابها الفيسبوكي وبمساندة من وسائل اعلام محلية، حملات
للمطالبة بتوفير الحليب لنحو ألف مصاب بأمراض التمثيل الغذائي في البلاد، وقدمت
طلباً بأسمهم إلى وزارة الصحة التي ردت ببيان أكدت فيه توقيعها لعقود استيراد 14
نوعاً من الحليب الطبي بقيمة مليون وربع المليون دولار. غير أن ذوي المرضى
وبضمنهم جنان كاظم، عدوا ذلك مجرد وعد قد لايتحقق، ونظموا في
شباط/فبراير 2024 اعتصاما أمام مقر الوزارة في بغداد مطالبين بتوفير الحليب.
واطلقت جنان، عبر صفحتها الفيسبوكية حملة بعنوان”انقذوا مرضى التمثيل الغذائي”
وجهت خلالها نداءات الى رئاسة مجلس الوزراء والى عدد من نواب البرلمان،
من أجل مساندة أهالي المصابين وطالبت وزارة الصحة بتوفير حصصهم من
الحليب المتاخرة عن عامي 2023 و 2024
العديد من ذوي المرضى، يُفيدون بأن الوزارة تتوقف عن توفير الحليب لفترات
طويلة تمتد لأشهر، وانهم يعانون وبشدة جراء ذلك، وأكدوا بأن أطفالاً مرضى توفوا
أو أصيبوا بعوق دائم جراء عدم حصولهم على حصصهم المقررة من الحليب.
وما يضاعف معاناتهم.
وتُرجع مديرة قسم الغربلة لدى وزارة الصحة د.مجد قاسم، التوقف المتكرر عن توزيع
الحليب الطبي من قبل الوزارة إلى:”مشاكل تظهر في بنود العقود وعملية
الشحن وضعف التخصيصات المالية” كما أردفت بان الوزارة لايمكن لها توزيع
الحليب الا بعد اجراء عملية الفحص وهي عملية “تتأخر عدة أشهراً في العادة”.
والدة الطفلة(ريحانة 6 سنوات)المصابة بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku، من مدينة
الحرية ببغداد، تتهم أطباء في العيادات الخاصة بتقديمهم: “آمالاً كاذبة وعلاجات
زائفة للمصابين بأمراض اضطرابات التمثيل الغذائي، لجهل معظمهم بالمرض”
حسب تعبيرها.
وتشكو من توقف وزارة الصحة عن تسليم المرضى حصصهم من الحليب الطبي
منذ عامين كاملين، تمسك طرف عباءتها السوداء وتقول بإنفعال:”أنا ربة بيت
وزوجي عامل بأجر يومي ولم يتبق لي سوى هذه العباءة لابيعها، وثمنها لن يغطي
سعر عبوة حليب واحدة التي يصل سعرها إلى 300 دولار”.
تناولت ريحانة ذات مرة حليباً اتضح انه منتهي الصلاحية، أدى الى تدهور حالتها
وأصابتها بالغثيان والاسهال، بعد ذلك امتنعت الطفلة وكردة فعل لا أرادية منها
عن تناول أي نوع آخر من أنواع الحليب:”اضطررنا إلى تغذيتها عن طريق الأنف
بانبوب يصل الى المعدة بحليب بديل بلغت تكلفة العبوة الواحدة منه 100 دولار وهي
لا تكفي سوى ليومين فقط”.
طفل آخر عمره ثلاث سنوات أسمه عباس، من منطقة الكاظمية شمالي بغداد، عانى
من تأخر في النطق والحركة مع اصابته بحالات اسهال مستمرة، وتباينت تشخيصات
الأطباء الذين أخذته أمه اليهم ، حتى اكتشفت في شهر آذار/مارس2024 بعد
فحوصات أجريت في تركيا، أن الطفل مصاب بمرض الفينيل كيتون يوريا Pku.
وتشكو الأم، وهي ربة بيت بدورها من عدم صرف الحصة المقررة لعباس من الحليب:
“ابني يصرخ من الألم والجوع، فنضطر لإطعامه طعاماً عادياً، فيصاب بالتشنجات
الشديدة أو الاغماء”.
ويذكر أن ذوي المرضى يدفعون مبلغً رمزياً مقداره 6000 آلاف دينار
( 4,60 دولار) لإستلام الحليب، الذي تحدد كميته لكل طفل حسب وزنه وعمره،
وتتراوح كمية الحصة شهريا بين 4 إلى 8 علب، غير انه لايوزع بأنتظام، كما لاتوفر
الوزارة سوى أنواع محددة من الحليب لاتتوافق مع جميع مرضى اضطرابات
التمثيل الغذائي.
معاناة في عموم البلاد
معانات ذوي أمراض التمثيل الغذائي، تكاد تكون واحدة في جمع المحافظات العراقية،
إذ اطلعت معدة التحقيق على قصص العديد منهم والمصاعب التي يواجهونها في
سبيل الحصول على الطعام الخاص من حليب وقمح وسواهما فضلاً عن الأدوية
والفحوصات المختبرية، والافتقار الى البنى التحتية لاحتواء المرض والمتخصصية بعلاجه.
أم فاطمة(40 سنة)من محافظة بابل جنوب العاصمة بغداد، تقول بحيرة، أن
مختبرات التحليلات اللازمة لمرضى التمثيل الغذائي غير موجودة في بابل،
لذلك تضطر لأخذ ابنتها(ثلاث سنوات) المريضة بـ Pku إلى مختبرات أهلية في
بغداد:”واذا لم نجر التحليل بتاريخ جديد لا نستلم الحليب”.
مشيرة بذلك إلى أن الفحوصات الحديثة شرط من شروط وزارة الصحة لتسليم ذوي
مرضى التمثيل الغذائي الحصص المطلوبة من الحليب، أم فاطمة ربة بيت
وزوجها عامل بناء، ولايمتلكان المال الكافي، وبسبب ذلك عجزا عن توفير الحليب
والغذاء والعلاج لإبنتهما لما يقرب من سنة كاملة، مما أدى إلى تدهور حالتها الصحية.
وفي البصرة أقصى جنوبي العراق، تغالب أم سيف(28 سنة) دموعها وهي تتحدث
عن طفلها(سيف 4 سنوات)المصاب بمرض التمثيل الغذائي من نوع( MSUD )
الذي يٌعد شديد الخطورة، ويصيب الطفل بضمور الدماغ.
“أجريت تحليل الكشف عن المرض في عام 2020 بمختبر الفيحاء وبتكلفة
بلغت 100 دولار وهو المختبر الوحيد الذي كان يجري هذا التحليل في البصرة
حينها وتم غلقه لاحقاً دون معرفة الأسباب!”.
تواجه أم سيف مشكلة أخرى، وهي تكاليف جلسات العلاج الطبيعي لتقليل التشنجات
الواجب اجراؤها بنحو يومي لأبنها وعلى مدى الحياة، تبلغ تكلفة الجلسة اليومية
17 دولاراً(22 ألف دينار) أي 510 دولاراً في الشهر(660 ألف دينار)،
وتضيف:” كما يتطلب علاج سيف مجموعة من مقويات الأعصاب و علاج
الصرع و أيضا أدوية مضادة للتشنجات”.
تضاف إلى ذلك إلى التكلفة العالية للحليب النادر الذي عانت كثيرا للحصول عليه
ولا سيما خلال أول سنتين من عمره:”حصلت عليه لمرة واحدة فقط مجاناً بعد
سفري المرهق الى بغداد، وبعدها كنت اشتريه من السوق السوداء، والآن المشكلة
تدور بشان توفير الطعام الخاص به”.
وفي محافظة ميسان جنوبي البلاد، تبرز مشكلة عدم توفر الأطباء المتخصصين،
وقد دفعت الطفلة نور الهدى(6 سنوات)ثم ذلك وفقاً لوالدتها التي تقول بأن الأطباء
غير المتخصصين عجزوا عن تشخيص حالتها، فاصيبت “بتلف الدماغ نتيجة
التشخيص الخاطيء”.
كما لايتوفر في مدينتها مختبر لفحص الغربلة ولا مركز لتوزيع الحليب أو العلاجات،
وتشير إلى أنها تتكبد مشاق السفر إلى بغداد والانتظار الطويل لإجراء الفحوصات
في مستشفى الكاظمية.
تؤمن والدة نور مبالغ النفقات من خلال بيع الخبز الذي تعده في المنزل، وتعيل
به كذلك زوجها المصاب بإعاقة عصبية ويعجز عن العمل.
وهناك في شمالي غرب البلاد حيث مدينة الموصل، يقول أبو آيات(35 سنة)
كاسب، أنه نشر قبل أشهر في مجموعة على الفيسبوك خاصة بمرضى التمثيل الغذائي
شيئاً عن حالة ابنته آيات(سنتان)، التي اصيبت بنوبة تشنجات وتقيؤ مستمر لعدم
توفر الحليب المخصص لمرضى(MSUD)في الموصل.
ويروي كيف تفاعل معه أهالي المرضى:”حصلت على عبوة من حليب، جلبها لي
شخص من المدينة ذاتها بعد منتصف تلك الليلة، وأنقذ بها ابنتي، بعد أن كنت قد فقدت
الأمل بنجاتها”، مشيراً بذلك الى معاناة ذوي المرضى، وصراعهم اليومي من أجل
تامين ما يبقي أطفالهم المرضى على قيد الحياة، ولاسيما عندما تتوقف وزارة الصحة
عن توزيع الحصص المقررة من الحليب.
وفي مستشفى روبرين، بمدينة أربيل في أقليم كردستان، كانت مينا التي لايتجاوز عمرها
السنة، ترقد في حجر والدتها وعلامات الإرهاق والمرض بادية على وجهها، تقول
الأم بشيء من الحدة:”منذ عام 2020 لم نستلم حصة الحليب والعلاج سوى مرة
واحدة في اربيل”. وتذكر أن ما يتحصل عليه زوجها عامل البناء من أجور،
لاتغطي مصاريف الحليب والعلاج.
وتذكر أن تكلفة التحاليل التي تجريها لمينا كل ثلاثة أشهر، تبلغ 200
دولاراً(260،000الف دينار):”نحصل على الحليب الطبي المهرب من ايران فنحن
هنا نواجه صعوبة كبيرة لعدم السماح بدخوله عبر الحدود، كما لاتتوفر في الإقليم
تحاليل الغربلة ولا يوجد أطباء متخصصون”.
تداعيات نفسية
جولةمعدةالتحقيق في محافظات العراق جعلتها تتوصل إلى حقيقة مفادها أن أعداد
المصابين بامراض اضطرابات التمثيل الغذائي في تزايد، وذلك بسبب زواج الأقارب
الشائع في البلاد وأن هنالك حاجة ملحة لزيادة الاهتمام بالاختبارات الجينية والبحثية
في العراق، لرصد الأمراض هذه بوقت مبكر، وبث الوعي لدى الأهالي،.
إذ ثبت لها أن غالبيتهم العظمى لم يكونوا يعرفون شيئا عن اضطرابات التمثيل الغذائي
إلا بعد تفاقم مرض أبنائهم، لغياب التشخيص، وانهم واقعون تحت تأثير ضغوط نفسية
جسيمة بسبب ذلك.
المختص بالطب النفسي ذو الفقار اللهيبي، يقول بأن:”زواج الأقارب يتسبب أحيانا
بظهور أمراض وراثية كاضطرابات التمثيل الغذائي، وإذا لم يتم الكشف عن هذه
الامراض في الأسبوع الأول من الولادة ويغذى الطفل بحليب خاص بحالته فإنه
يتعرض للإعاقة الذهنية”.
ويشير إلى أن مرض الفينيل كيتون يوريا Pku الشائع في العراق على سبيل المثال،
يؤدي مع كل أسبوع تأخير في معالجته”إلى تراجع معدل الذكاء للطفل المريض”.
ويستدرك:”حتى مرض الفينيل كيتون يوريا، يتكون من نوعين، النوع الاول هو
الكلاسيكي(الشديد) وهنا يكون الانزيم ضئيلاً أو مفقود كلياً، مما يؤدي إلى ارتفاع
نسبة الفينيل ألانين مسبباً ضرراً أكبر بالدماغ، والثاني، معتدل يكون فيه الإنزيم
موجوداً لكن يؤدي وظيفته بصورة أقل فعالية مما ينتج نسبة أقل من الفينيل ألانين،
مسبباً ضرراً أقل للدماغ”.
ويؤكد حاجة مرضى التمثيل الغذائي الى علاج نفسي بنحو مستمر:”نظراً لتعرضهم
للضغط النفسي والتنمر من قبل الأهل والغرباء، كما يعانون من الضرر العصبي
النفسي والعضوي والضغوطات من العائلة اضافة الى معاناتهم من الضمور والصرع
و فقدان النطق”.
ويلقي الطبيب ذو الفقار، باللائمة على الأطباء الذين يشخصون اضطرابات التمثيل
الغذائي بنحو خاطئ:” هنالك على سبيل المثال من يشخص مرض الفينيل كيتون يوريا
على أنه توحد و لكنه في الحقيقة يشبه التوحد وعلاجه النفسي يكون مختلفا تماماً”.
وتلفت خبيرة مرض التوحد نور الطائي، إلى أن دراسات طبية، توصلت إلى أن
حالات التنمر التي يواجهها مرضى اضطرابات التمثيل الغذائي هي بسبب:
“رائحتهم المميزة التي تشبه رائحة الطيور أو الفئران وذلك بسبب تراكم البروتين
في الجسم، وأيضا بسبب معاناتهم من صعوبة النطق و تغير لون جلودهم
وشعر رؤوسهم”.
معدة التحقيق حصلت على معلومات من اختصاصيين أكدوا بأن أمراض اضطرابات
التمثيل الغذائي هي من الامراض التي قد تكون مصاحبة لمرض التوحد و تبدأ
ملاحظته في السنة الثانية من عمر الطفل ومن بين أعراضه ضعف العلاقات
الاجتماعية ومشاكل في التواصل عبر الكلام.
أم رزان(سنة33) ربة بيت من منطقة العبيدي شرقي بغداد، لاتريد إنجاب مزيد
من الأطفال، بسبب تجربتين خاضتهما، الأولى خاصة بإبنتها رزان 5 سنوات،
المصابة بمرض التمثيل الغذائي الوراثي (MSUD).
وقبلها، لفقدانها أبنها أحمد وهو بعمر 18 شهراً فقط:”لم يكتشف الأطباء مرضه مبكراً
ولم نكن نعرف اصلاً أي شيء عن المرض وما يتوجب اطعامه”، لهذا هي ترى
بأن إنجاب طفل آخر يعني اصابته بالمرض ذاته بنحو مؤكد، لذلك تستبعد الفكرة
من ذهنها بنحو قطعي.
تمتليء عيناها بالدموع:”أصعب شيء تواجهه الأم أن يكون فلذة كبدها مريضا
ولاتعرف كيف تساعده”، معبرة بذلك عن معاناتها النفسية، وتضيف بكثير من
الحزن:”أشعر أصلا بتأنيب الضمير لأنني وزوجي أورثنا لطفلينا المرض،
ولا يستريح لي جفن من قلقي وخوفي المستمرين أن تلقى المسكينة رزان نفس
مصير شقيقها أحمد”.
- أنجز التحقيق بإشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية ضمن منحة زمالة ميدان.
اقرأ أيضاً: نظام الصرف الصحي في دهوك يلوث المياه الجوفية ويهدد الصحة العامة