صباح خريفي

قصة قصيرة :عامر سلطان

 لم تكن  تعلم أن  صباح ألجمعه  ، هو آخر صباح خريفي لها تتنفس فيه هواء حديقة منزلها ،

وتنتقل بعدها  الى عالم التراب. كانت تشعر بنشاط غريب  يدب في أوصالها ، ويدفعها نحو

الاستيقاظ  مبكرة ، والدوران بصورة  الية  حول الحديقة ، والكراج ، وقدمة الدار … تكنس

 أوراق الأشجار المتساقطة ، وتفتح صنبور الماء فوق بلاطات الكراج ، وتتظفها مما علق بها من تراب ,

 وبشعور كبير بالحنان والشوق  تتحرك  بين خيوط ضياء قرص الشمس الذهبية تتفقد نباتاتها فوق

 شباك المطبخ .  وهنا وجدتها فرصة  مناسبة كي تختلس النظر  الى  زوجها الذي كان يتناول

فيه ، هذا الرجل الذي قاطعها منذ سنوات ، يجلس هاديء البال ، غير مكترث تماما  لوجودها .

تخربش  فوق زجاج الشباك،  وتلوح بذراعيها ، وكفيها كالقردة في الأقفاص  وهي تحاول إثارة انتباهه

 لها لكن عبثا تفعل .  اخيرا  تتوقف  عن حركاتها  البهلوانية ، وتكتفي بمتابعته  بعينين مترقبتين

 ، وهي تبحث  عن يقين  قديم ضاع بين ايام  السنين . ايام  عاشتها معه   تتمنى  خالصة ان

 تصرخ  عاليا  محتجة على فقدها وضياعها بأوهامها  وعدم رضاها عنها ، لكن يبدو أن صوتها لا

يساعدها في الخروج من حنجرتها  الهرمة، وحتى إن خرج ماذا ينفع احتجاجها اليوم  ،بعد

ضياع الشباب .  وتمنت أن يرى ومضة الإحسان  في عينيها  لتقنعه.  إن سواد السنين التي عيشته

فيها ، يمكن أن تتحول هذا اليوم  إلى لون وردي ، لكنه لا ينظر إليها فكيف بعينيها    . فلتنعم

 النظر هي في هيئته ، وهو جالس مكب رأسه  على جهاز اللابتوب أمامه،  كان يبدو  أكثر  وسامة ،

ووقارا من ذي قبل ، رغم  تجاوزه الستين  ، تتخيل  إن لسان حاله الآن  يقول  : ( إبعدي نظراتك

 عني ، وأطوي صفحتك معي  يا سعاد  ، فلات ساعة مندم كما يقول المثل العربي القديم  ، لقد

 فرقنا الجدال ، والشجار  السقيم  ، في السنوات العجاف  التي عشتها معك فليوحدنا اليوم  الصمت

 الحزين. ) نعم الصمت والخوف من الكلام والاسترسال به . وهي أرادت   أن تقول له ( حلق بروحك

أينما أردت و سطر ما شئت على صفحتك  من خلجات ،  فليس هناك  من يأخذك مني …. لازالت

تسكن ذات المنزل الذي بنيته لعائلتك … سطر ما شئت  فانا صحوت  اليوم مبكرة كي أشعل ثلاثين

 شمعه بين يديك ، هي عمر زواجنا ……….ساعد لك الفطور   …..أنت لا تريد ان تسامحني 

  انت تتحاشى،  النظر إلي أو مجاراتي  في أي حديث كان ،  الحق  معك  لأنك لا تجد في ذاكرتك

  ما يسرك  عني …نعم انأ اعترف بذلك لقد تجاوز  عمري الستين .. واشهد الله  ان حياتي معك

كانت سلسلة من نزاعات وشجارات لا معنى لها  .. كنت أتفنن في افتعالها  تركتك بعدها  وحيدا 

في البيت،  تصنع طعامك بيدك، وتنام على السرير وحدك،  أما انا فاذهب راكضة حيث  أمي

أحتمي بحضنها الكبير ، ولما نجتمع ليلا مع إخوتي وزوجاتهم ، على طاولة العشاء أو في حفلات

 الميلاد أتهكم  وأشخر منك أمامهم،  و أجد في  مشاركتهم لي ضحكي  وسخريتي   غبطة ما بعدها

 غبطة  . اليوم اقول كيف كنت تبقى وحيدا في البيت ؟   أسابيع  ؟ وشهور …. مرة قالت أمي

 اتركيه لن يستطع إقامة دعوى  طلاق ضدك  لأنه  ببساطة لا يملك ثمن إقامة دعوى ، و أسعدت

 من  جمال الفكرة ،  فالبيت الذي عشنا فيه كان باسمي ، واعرف انك إن قمت بأي دعوى قضائية

  ضدي ستجد نفسك في الشارع  ….اليوم اكتشفت سبب فرحي بما كنت افعله  ..أنت كنت السبب ، نعم  كنت العدو

  اللاشعوري  لي  ، فالفضائل التي تفتخر بها أمام الناس  من شهادة وفتوة ،  تكفي للتصدي

لك  وكسر كبريائك  ….. كنت مقتنعة انك لم تحبني يوما  من الأيام ،  وإنما أجبرت على الزواج

 مني . امرأة اكبر منك سنا عسى أن تساعدك في التغلب على ظروفك المادية الصعبة    ….  في

 بداية زواجنا  حاولت   أن تصدني عن طريقي هذا  ، لكنني لم أكن أصلا  أعيش في دائرة تفكيرك

 ، وخيالك  وآثرت أنت بعدها   الصمت المبكي  ، والمطالعة وكتابة المسرحيات ، اليوم أريد تمزيق

الشريط  السينمي الطويل   لثلاثين عاما  .مضت وابدأ معك من جديد …  ألا تنظر  إلى  ضآلة جسدي ؟

ونحافتي  و ما فعله مرض السكري بي   ألا ترق لحالي ؟

 بقت سعاد  تناجي  نفسها، وتراقب زوجها بعيون امرأة مسنة ، تجاوزت الرابعة والستين من عمرها ،

 وهو لاه عنها  مستغرق في وحدته مع طعم  الشاي  .  وكعادتها  عندما كانت تريد الخروج من البيت

 فتحت باب المطبخ  وأغلقته بقوة   وهي تدخل  مجتازة مكان جلوسه  ،  ثم تصنعت الارتماء

 فوق الكراسي الفارغة،  حول الطاولة التي يجلس إليها ، عسى أن تسد جوعها بكلمات رقيقة

 تخرج من فمه .   لكنه ظل كابي الهول صامتا لا يبدي حراكا   حتى انه لم  ينظر في وجهها                 

 سالت نفسها ماذا تفعل  بعد أكثر مما فعلته كي تثير انتباهه،  شفقته،  غضبه  ، أي انفعال  يمكن

أن يصدر عنه ويشعرها أنها لازالت كائن حي ،وليست جماد لكن ليس هنالك ردة فعل .  يؤلمها

 حقا ما وصل إليه من حالة يئس مريعة انقطع معها الرجاء من إصلاحها… لا ينفع معه أي

 أسلوب  ووجدت نفسها تتحطم أمام صمته وتصبح مهزومة  ذليلة بعد سنوات من الكبرياء

واللامبالاة  تنظر الى سكوته  وتقرأ  مقدار كرهه العميق لها   بالذات في هذا اليوم 

اليوم هو يوم  جمعه ، وهي تنتظر أن تعيش معه أجمل أيام حياته ، خاصة وان  الأولاد لم يعودوا

كما كانوا صغارا   فهم الآن    شباب  فالابن الكبير طبيب  والبنت  الوسطى   استاذة جامعه

 و الصغرى  معلمه  وقد تزوجوا جميعهم تنظر اليه  لكن  زوجها  الجبل لا يريد النظر إليها .

 إنها مستعدة  أن تعتذر له عن كل الأيام  …ماذا لو اعتذرت  هل   سيصفح  عنها  أخيرا قررت

 الاعتذار  وليكن ما يكن  ، وحلمت أنها ستصب له الشاي ويتناولان فطورهما معا ، وربما

 يخططان  السفر الى تركيا  ، وقضاء شهر عسل جديد .

كان هو يستمع لشعر شعبي ، وغارق في عالمه الذاتي،  تقدمت ووقف أمامه تريد أن  تنطق بكلمة

اعتذار ، لكنها أحست وخزه  كالسكين في  قلبها ،  أمسكت صدرها ، و تمايل جسدها النحيل ،

 واتكأت فوق  كرسيه الذي يجلس عليه ، نظر إليها و اسند رأسها إلى كرسي آخر  حتى لا تسقط

 على الأرض ثم قال لنفسه

و أخيرا ….مت

اقرأ أيضا: ريح لن تهدأ

Exit mobile version