ضوء تنفرد بنشر قصة (القنّاص)للراحل أنور عبد العزيز

قصة قصيرة للراحل أنور عبد العزيز

  كان فجراً ضبابياً بارداً معتماً ، وكان الجسر وحيداً ، أكثر من فجر ضاع مني وأنا أحاول

 أن أتصيّد اللقطة المشتهاة ، رغم اقترابه مني ، ما تحرّكت أصبعي ، يظهر في أول الجسر

 ليبدّد ذلك الصمت الجميل إلاّ من صوت حفيف أشجار الغابة القريبة والنوارس التي استيقظت

 ضاحكة وهي تمسح وجه النهر ، وهي تعلو على الجسر ملتفّة بأسرابها عبر الغابة مجتازة

 باندفاع قناطر الجسر السفلية سابحة في فضاء منخفض أو هابطة كسهم وقد التقطت عيونها

 أسماكا ملتمعة بدأت تظهر وتتراقص قريباً من سطح الماء ، لم تكن  الرؤية واضحة بعد لكنه

 – وكما في كل يوم ومرّة – يظهر في أول الجسر مندفعاً بعربته الخشبية القوّية كعربة آشورية

 حربية مقاتلة ، متماسكة ، مطّوقة الجوانب ومسوّرة بشريط حديدي ملتحم مع خشبها الصلد

بمسامير كبيرة بارزة كروية الرؤوس.

كان الحصان قوّياً بظهره وصدره العريض وقوائمه العمودية الرشيقة ، مندفعاً في قلب الظلام

 الشائب ، مصارعاً البرد المتجلّد ببخار من منخرين كبيرين كأنهما فوهات أنبوب بخاري ساخن

 ، وكان الرجل الكادح أصلب من عربته وحصانه ، طويلاً بنحافة صلبة ، يرتدي زبوناً حائل

 اللون ويعتمر غطاء محكماً للرأس ، نظره يمتدّ للبعيد وتكاد تحسّ أنه قد توحّد بعربته وحصانه

 ، وهما يشقّان صمت الجسر وفجره، إلى جانبه ولده الصغير بنفس النظرة الثابتة نحو الأمام

 وقد أمسك بيده طرفاً من زبون أبيه ، كنت أحسّ بحنان طريقة مسك الصغير لطرف الزبون

 وتقليبه النظر بين وجه أبيه ووجه الفجر الوليد. كان يبدو واضحاً حبّ الصغير لأبيه من

 ابتسامته وقد أشبهت الفرح الطاغي ، الفرح بالأب والعربة والحصان العنيف الطائر ،

 وبهذا الفجر النديّ ، ليس هذا ما كنت أبحث عنه ، وما كان أسهل أن تضيء أصبعي أكثر

 من لقطة وأنا أترصّده ، وأنا أتهيأ له باهتمام وترقّب منذ أيام ، أتأمل وجه الصبي فأجد

 أثر النعاس محفوراً فيه ، الصبيّ – وككل فجر – لم يشبع نوماً ، وصوت أبيه الجاف

يوقظه فيخنق ذلك الحلم الهنيء والخدر اللذيذ بمعاودة النوم ، لكن الأب – ويبدوا ذلك

 واضحاً – ربما كان يدرّب أبنه على مواجهة ، الحياة – وكما عاش هو – ولعمر طويل

 ، رغم تلك الملامح النائمة في وجه الصغير فقد كان يبدوا راضياً ومحبّاً لأبيه، كنت

 أريد أن احصر وأوقف ملمح نومته الضائعة ببريق سريع يضمن لي ذلك ، وقد استطعت

 أن افعله بعد أن ذقت من برد صباحات الجسر والريح الباردة الهابّة من فوق الماء

ما جعل انفي أحمر قرمزياً ، وأذني كقطعتين جلديتين مثلوجتين .

مثلما عانيت وتأخرت في رصد ملمح النعاس ونومه الصباح المهدورة ، فقد أتعبني ذلك

 البدوي مع كاتب العرائض كان ( العرضحالجي ) شيخاً معمّراً متعب العينين ، وسطاً في

 قامته مكوّرا لحدّ ، يرتدي قابوطاً طويلاً منخوراً بعدة ثقوب ، كان طبيعياً أن يلتحف

 قابوطه طيلة أشهر الشتاء ، وكان طبيعياً – عنده أيضاً – ألا يتخلّى عنه في أشهر

الصيف الطويلة الحارقة الكاوية ، تهيأت عدستي عندما لمحت الذبابات الثلاثة وهي

 تتوزع بين ثنايا سدارته السوداء المجّعدة الباهتة ، كان وجهه محروماً من الحلاقة لأسابيع

 ، ساعد عرقه النازف من رأسه ووجهه ورقبته أن يحيل شعر الوجه إلى بقع صمغية مقرفة

 ، لم تكن الذبابات هدفي وما شكّلت السدارة والقابوط رغبة الاحتفاظ بصورتهما ، وحتى

 ذلك الوجه الصمغي المنقوع بدبق العرق المالح ما كنت أريد أن أتذكره ، كانت عيناي

وعينا كامرتي ترقبان ذلك البدوي الأسمر النحيل وبغترته البيضاء وعقاله الرفيع كخيط ،

يتابع ويتأمل ما تخطّه يد الكاتب العجوز العجفاء وأصابعه المرتجفة  المهتزة مع كتابة

 كل حرف ، النظرة المستغربة هي ما كنت أنتظره ، البدوي يبحلق مدهوشاً ذاهلاً في

العمل الغريب الذي يمارسه العجوز ، ينظر إلى الحروف وكأنها طلاسم سحرية ، وكيف

 يستطيع أن يجمعها لتستحيل أشكالاً وكلمات ، عندما كنت أرصد عجز الكاتب وصعوبة

مهّنته وحيرته ومعاناته في خط  بضع كلمات واضحة بسيطة ، ألمح تلك الدهشة

والذهول يحفران أسئلة غامضة محيرة في عقل البدوي عن سرّ هذه القدرة الخارقة ،

 وكيف يستطيع الكاتب أن يحوّل الطلب إلى كلمات ومعان مفهومة …

  أعتقد أنني كنت محظوظاً عندما تحقّق لضياء العدسة أن يجمّد تلك النظرة المستفهمة

المستغربة في عيني البدوي ، وصار الأمر مفرحاً أكثر عندما ظهرت الذبابات الثلاثة ،

 حيّة نشيطة قد حطّت على البقع الدهنية على سدارته وفي أية  لحظة تتملى فيها الصورة

 .. كنا قد خرجنا من حرب عالمية طاحنة ، الحياة حزينة كئيبة مُرّة ونقمة سوداء موجعة،

 بدأت أرى اهتمام الناس بالنقود وقد صارت شحيحة في أيدي الكثيرين ، ولعهم بها ولهفتهم

 وشراهتهم أخذ يتزايد ، بدأت سطوة النقود وهيمنتها ولا إنسانيتها تظهر شيئاً في كلمات

 الناس ومفردات حياتهم ، كنت أخشى أن تستبّد النقود بعقول الناس وضمائرهم ، وهذا ما حصل

 فعلاً فقد ضاعت النفوس بسبب هيمنة النقود الخبيثة الماكرة وشراستها ، ما الذي يستطيع

رجل حالم مثلي أن يفعله تجاه الكارثة ، فقط كنت أريد أن أنبّه وأحذّر ، كان طالب طب

 يسكن في جوار محلي ، استعرت منه جمجمة منخورة متآكلة ، وضعتها على منضدة ونثرت

 بجانبها كومة من نقود ورقية ومعدنية ، وبضوء ممزوج بشيء من الظلال خلقت بؤرة

 الضوء الخاطفة تلك الصورة التي تتحدثون عنها ، كان محلّي في مدخل شارع الدوّاسة،

وكان شيئاً اعتيادياً أن يتوقف العابرون أمام الصور المعروضة ينظرون إليها

ويتأملونها بنظرات سريعة عابرة ، ومنذ أن وضعت ( الجمجمة والنقود ) وفي عرض بارز،

 صار المارّة تثقل خطواتهم عندها ، وكثيراً ما ازدحم بهم الرصيف في الأيام الأولى،

 كنت من داخل المحل ارقب وجوههم لأفهم انطباعاتهم ، منهم من كان يمسّها

بنظرات مستعجلة ولكنها حائرة ومستفهمة – وأكثر هؤلاء من الصبية والشباب

 – ومنهم من أطال الوقوف والتحديق ، وكنت أرى في أعين هؤلاء – وأغلبهم

من كبار العمر – ذلك الألم ممزوجاً بخوف غامض ، كنت أريد وأتمنى ألا تكون قوّة

 النقود وسطوتها هي الهمّ الحقيقي ، وهي ما يوحّدهم، لكنّ تلك القوّة الغاشمة

استطاعت أن تتغلغل في العمق ، وهذا ما أحزنني وأرعبني ، لذلك فضحتها وعرّيتها،

 يوماً بعد يوم تغيرت تلك النظرة المجرّدة العابرة المصحوبة بالدهشة والانبهار ، مرّت

 أيام وأسابيع ، بدأت أطمئن أن كثيراً منهم – حتى الجهلة الأميين – صار يدرك سرّ

وجود هذه النقود المغرية المثيرة والمفتنة إلى جانب تلك النهاية المفجعة المحزنة ..

الموت ، الجمجمة والفناء ، أدركوا أكثر من سرّ العلاقة بين الاثنين ، وخيبة

 المهووسين بها والضائعين التائهين في دروب جمعها وتخزينها ، وهي تجرّد أصحابها

 – كلما تراكمت – من متعة ولذة صور الوجود الأخرى الجميلة بعد أن تسرّبت في

 دمهم وزهت في عيونهم فباتت عمياء لا ترى جمالاً آخر . لجأت إلى (الجمجمة) في

 مرّة ثانية بعد أن استحكمت وتمكنت مني عادة ربما كانت قبيحة وذميمة في مقاييس

 الذوق والجمال ، فصرت كلما رأيت وجهاً جميلاً ، وعينين ساحرتين لامرأة ،

 أتخيل ذلك الوجه مشروخاً مقسوماً بين عين رائعة خضراء أو زرقاء أو سوداء

 أو صفراء لأتخيل العين الأخرى حفرة بعد أن ألتهمها ونظّفها الدود ، صار الأمر

عقدة في روحي كانت تكبر كلما رأيت امرأة أو مراهقة متكبّرة مغرورة بعينيها ومتعالية

 ، كان سهلاً أيضاً فبجمجمة لرأس ووجه امرأة أبقيت عينا جميلة ، وعرضت الأخرى

وكشفتها حفرة مقيتة كريهة ، وكما في ( الجمجمة والنقود ) فقد لعب الضوء والظل

 واللون الطبيعي في خلق ( صورة ) جعلت أرجل المارّة والعابرين تتوقف على الرصيف

 بدهشتها ، وجعلت العيون وملامح الوجوه تتساءل بصمت عن معنى هذه البشاعة ولمّ

 فعل المصوّر ذلك..!؟

مذ كنت صبيّاً أحببت الفجر والجسر الحديدي العتيق والنهر والغابة والصيّادين

والقوارب والطيور والأسواق المضيئة وأكثر منها المعتمة ، ودكاكين النجارين والحدّادين

 وباعة الفحم وأسواق الصاغة والدروب والأزقة الضيقّة الملتوية ومنائر المساجد والأديرة

 المعزولة في قم الجبال ، وكان يستهويني منظر عربات الخيل مشدودة لحصانين ،

ثم لحصان واحد عندما فتك وألتهم الطاعون أكثر خيول المدينة، العربات السوداء

 بمظلاّتها الحلوة وسائقيها الكادحين وظرفهم ولهوهم وصبرهم وتحملهم لأقسى حالات

 البرد والمطر ، عندما كبرت صرت ألاحق هذه العربات ووجوه أصحابها وأعراف

 خيلها والطرر المرصّعة لجبهاتها ، وآذانها القصيرة المستوفزة ، وحوافرها الملتمعة

 ببرق شرر الإسفلت وضرباتها القويّة بإيقاعها الجميل ، المطر ينهمر ويزخّ كسيل تتلاعب

 وتعصف به الريح الباردة الهوجاء ، والعربة تشقّ الظلام والليل والبرد والمطر ، ترى الخطوط

 الملتمعة عندما يتخللها الضوء ، ثم الحركة المتسارعة القوّية لقوائم الخيل تدفع بها عنف

 الرياح المتجلّدة الهائجة في عمق الليالي الباردة ، رغم أنّ بعضهم كان يستعين بمشمّع أصفر

 وغطاء للرأس ، إلا أنّ أغلبهم كانوا يستحيلون إلى خرق منقوعة ، وكانت مناخير الخيل تدفع

 – وهي تلهث – بخاراً كثيفاً حارّاً يختلط ويضيع بسيل المطر وجنون الريح .. أكثر

 من صورة ، استطعت أن التقط فيها هذه الخطوط الضوئية وتمنّيت لو رسمها فنّان كلوحة

 ومهما قيل لي : إنّ كل صورك لوحات ، فأن هذا الكلام لا يقنعني فلا يمكن لأيّة صورة

 مهما تفوقت وتألقت أن تتحول إلى لوحة ، فاللوحة شيء آخر والصورة صورة ، يقولون

 لي : تبدوا متواضعاً لكنني ما زلت مصراً على أنّ ما أضاءت به عدستي كانت صوراً ،

 أكره الخداع ، وتظل الحقيقة وزمنها ولحظتها – حلوة كانت أو مرّة – هو ما أريد أن

اشهد به ، فكل صور الشيوخ والمعتوهين والمجانين والمعوّقين والمسوخ وعمّال

 الأفران والبائعين والحمّالين وأحلى وجوه النساء وأكثر وجوه الصغار براءة وطفولة،

 التقطتها صوراً واقعية لناس حقيقيين ، لم أضف لها شيئاً ، وما أكسبتها جمالية

مصنوعة مخترعة ، كنت – وكم فرحت عند نجاحي – أن أصوّر الحقيقة – وكانت

 قاسية في حالات كثيرة – ففي ظهيرة يوم قائظ ملتهب ، كنت في فرن ، يكفي أن أقول

 كنت في فرن وفي قلب  الظهيرة المتوهجة المشّعة بالنار ، كان الفرّان بعمره الستيني

ووجهه الملفوح بلهب النار مواجهاً للفرن، كان عاري الرأس عاري الصدر ببنطلون

 خاكي قصير ، وكان حافياً ، ما حيّرني هو هدوء الفرّان وصبره وتحمله ، الناس يسرعون

 في الشارع لتظلّهم شجرة أو أيّ ساتر من بناية ، ما كنوا صابرين أو محتملين لدقائق

 من شمس محرقة ، والفرّان بهدوئة وصمته وسيجارته المشتعلة ، يمدّ رأسه أو يديه

 أو جسده في مقدمة الفرن ، ينتظر – بثبات وسكينة – من موقعه ووقفته أمام فوهة

الفرن المتأججة ، يؤدي عمله بمهارة وبلا اضطراب وكأنه أمام مبرّدة منعشة للروح،

 كنت أطمح أن أصّور هذا الصبر والثبات والرسوخ عبر ملامح وخطوط الوجه المعرقة

 شبه المحروقة أنظر إلى (صواني المشويات ) الساخنة المحمّرة مجبولة بدهنها،

وكان هو (المشوّي ) الآخر المجبول بعرقة المتقطر المدهون ..

في ( الكَب ) وكانت أرضاّ خلاء رملية واسعة قرب ( حديقة غازي ) يباع فيها ( الرقّي ) ،

 كان ذلك قبل خمسين سنة ، كنت أعجب للباعة الأمييّن الجهلة لحسن ذوقهم وهم

 يرصفون الشمزي والبطيخ في دوائر وأكوام وحلقات هندسية متقنة وجميلة ،

 بدشاديشهم وأرجلهم الحافية ووجوههم الموشومة بالرمل الحارق تنثره الريح وحركة

 الباصات الخشبية الناقلة ، لم تكن ترى غير سحب الغبار المتصاعد الملتوي بدوائر

 حلزونية سريعة وغير أغطية رؤوسهم الخافقة المهتزّة ، مع ذلك كانوا يبدون

 فرحين مرحين بضحكاتهم الرنّانة المقرقعة المتفجرة ، ونكاتهم المبطنة الملغزة ،

وبتعاونهم وتآلفهم ، وبشوشين ودودين متسامحين في البيع والشراء ، لم تكن تجد

 أمامك خلاءً وسوقاً بل كانت شبه احتفاليات يشارك فيها باعة الأطعمة الخفيفة والشاي …

صيادو الأسماك وقد ركنوا قواربهم إلى حافة النهر ، هؤلاء الصيادون كلّهم يعرفونني

 ، ارقبهم في ليالي الصيف المنعشة الساهرة وحتى في أيام تجلّد النهر وقهر البرد

بزوارقهم المتعبة ونكاتهم الخبيئة بكنايات النساء ، وشباكهم المتهرئة المثقوبة إذ

يصرفون أكثر وقتهم في محاولات سدّ هذه الثقوب بساعات طويلة من عمل صبور

 شاقّ تحت شمس لاهبة أو وسط ريح ثلجية لا يعرفون ليلا من نهار ، تتحرك أعمارهم

 ولسنين بين ( الرشيدية ) مروراً بعين كبريت وقره سراي وباشطابيا ، ثم ( القليعات )

و( الميدان ) والجسر الحديدي العتيق وصولاً للدّواسة والدندان ، وقد تمتد بهم الرحلة

 إلى ( البوسيف ) ، ولهم في هذه الغابة الكبيرة و( جرداغ ) الشواطئ للنهر

الطافح بالسمك ، وحكايات الحوريات وعرائس الماء والطناطل والسعالي ما يملأ وقتهم

 ، وهم يمزجون تلك الحكايا الممتعة ، واقعية كانت صحيحة أو خرافية بساعات عملهم

 ، ليس لهم من علاقة بالمدينة إلا زيارات مؤقتة خاصة لبيوتهم ، وأكثر ما تلقاهم

عند تجّار وباعة السمك ، وفي محال بيع الشباك والخيوط والشصوص وعند نجّاري

 القوارب في الميدان ، صوّرت قواربهم وحركتها وسيولتها ، وآثار أقدامهم لمسافات طويلة

 على رمال الشواطئ ، وأهمها لحظة رمي الشبكة ونجاح عملية الرمي في أوسع بقعة،

 وعدم التوائها وتراكمها على بعضها والجهد المبذول لذلك بعد أكثر من محاولة ، ثم

 ساعات الانتظار الطويلة في نهارات الشمس الحمراء الساطعة ، أو في الليالي

 المقمرة البيضاء ومعهم طعامهم البسيط وشايهم ، أحفظ كثيراً من صورهم ، وأتباهى

بصورة ذلك الصياد الحاذق الماهر ، هو لا يخيب أبدا عندما يطرح شباكه المتعددة في

 بقع مائية مختلفة ، بخفّة وسرعة ساحرة.

الشيوخ كانوا يحزنونني ، أراه يسير كنملة ، قصير مكوّر ، محني الظهر لحّد الأنطواء،

 يحمل مقعداً من قماش تحت أبطه ، يسير دقائق ليستريح ساعة ، أرى في انطواء

 ظهره وثقل شيخوخته وضعف بصره وسمعه قهر الزمن وغدر السنين ، سمّاهاد

 أحد الأدباء : (موسيقى الزمن) ، أنا أصوّر وهم يخترعون لها أسماء ما كان أحلاها

لو بقيت عارية بلا عناوين … 

المتصوفة وخرقة رؤوسهم الخضراء ، المسابح الطويلة يلفّونها على أوساطهم ، يقتعدون

 زوايا الطرق والدروب ، صامتين ذاهلين ، استطعت أن الملم تمتمة الشفاه الهامسة بألف

 ألف كلمة لله ، يرددونها وينغّمونها بمتعة وكأنهم يستطعمون حلوى الجنة …

أحزنني أكثر المجانين ، هم صنفان : الأول أكرهه ولا أتعامل معه ، سفهاء شرسون

عدوانيون مؤذون ثرثارون مجرّمون في وجوههم وأجسادهم وأيديهم وعيونهم ورؤوسهم

وأرجلهم ، أسمال بالية وشتائم وكلمات فاضحة من أفواههم مبثوثة برذاذ لعابهم السائل

الكريه ومخاط أنوفهم وقيح عيونهم المحمّرة هؤلاء لا أقترب منهم ، تآلفت  وتعاطفت

مع الصنف الثاني : مجانين هادئون صامتون محزونون كئيبون لا تحس لهم حركة،

يظلّون لساعات تحت ظل شجرة أو في زاوية درب أو بجانب عمود ، بنظراتهم الساهمة،

وكان أكثر ما يؤلمني في هؤلاء مسألة البرد والشتاء ، يقولون أن المجانين لا يشعرون ببرد

أو  حرّ ، لا أصدّق ذلك ، فنحن العقلاء نشكو ونضجر من اقل برد وحرّ ، وهم على صمتهم

 واجمون لا يشكون .. ما زلت لست نادماً ، قبل سنين ، وكان مساءّ شتائياً مؤذياً كان

 شارع الدّواسة في ضجيج وصخب المساء ، أحد محلات ( الستريو ) فتح الصوت إلى

 أعلاه ، كانت موسيقى إيقاعية راقصة يقودها الطبل ، فجأة نبع ، من أين جاء ؟! كان

 عارياً وحافياً نحيلاً ممصوصاً مسوّد الوجه والرقبة والبطن والظهر والساقين والرجلين من

 وسخ قديم مؤثث ، فقط كان يرتدي نصف دشداشة ممزقة لا تلبس طفلاً ، حشر الدشداشة

 في رقبته فغطّت أجزاء من ظهره ، كان قفاه مكشوفاً مفضوحاً ، ومع حركة الموسيقى

 وإيقاعها الصاخب تسمرّ أمام المحلّ ، قفزات متلاحقة سريعة وبدأ يرقص ، تساوق جنون

 الموسيقى مع جنونه ، تجمّع عليه المارّة ، صار فرجة حلوة مسلّية ، المجنون يجيد

الرقص ربما تعلّمه وأتقنه قبل جنونه ، لم أر راقصاً مرن الجسد مثله ، كان يتلوى

 كراقصة غجرية  مهتاجة، وكلما تصاعد الإيقاع وصخب الطبل انسجمت حركاته أكثر،

كان المجنون يبدو وهو يرقّص عجيزته كبدائي أفريقي هائج مسحور بطقوسه الوثنية

، الخبيث صاحب المحلّ وجدها دعاية لمحلّه وموسيقاه ، إذ بدا الحشد يكبر ، كان يستطيع

أن يطفئ اللحن ويوقفه ، لكنه لم يفعل ، بل زاد الصوت ضراوة ، كنت احمل كامرتي، هممت

 أن أضيء المشهد واقتنصه بلقطة ولقطات ، ولكنني عندما رأيت عجيزته العارية خجلت

من نفسي ، ووبّختها، أيحق لنا أن نتسلّى ونسلّي الآخرين بفواجع الناس ، كامرتي المتحفزّة

 وأصبعي الممدود المنتظر تراخيا ، كان الجمع قد أحاط به وعلا التصفيق والتشجيع والإثارة

الوحشية ، كنت أتأمل فرحتهم ونشوتهم الطاغية لرقصة مجنون عارٍ ، فأتخيل أن أيا منهم

 كان يمكن أن يحلّ محله، يؤدي رقصته ويهزّ أسته المرتجف ، لم أحتمل ، تركت المكان،

كانت الموسيقى ما تزال ترّن في أذني ، والعدسة ما زالت مفتوحة ، وكنت على وشك البكاء …

مرّة أخرى ، أحجمت عن تصوير رجل معوّق مشوّه بلا رجلين وبيد واحدة قصيرة لها أصابع

 طويلة كالزعانف ، لم يكن طوله يزيد على نصف متر ، كل شيء فيه كان مخرباً ناقصاً

أو مفقوداً ، وجهه فقط كان صبوحاً جميلاً رغم حزنه المرّ لوجوده كحيوان غريب في

عربة خشبية مربّعة صغيرة مرميّة على رصيف الشارع ، وعندما حدقت في عينيه اللامعتين

 الواعيتين وكادت الكاميرا تفعل فعلتها ، خجلت من ارتكاب ذلك الإثم وجناية تسلية غريزتي

 بصورته الفاجعة ..

تسألونني : لا نرى حيوانات في صورك ، وأقول ، وربما بدا كلامي ساذجاً ومضحكاً فأنا أكره

الحيوانات الفاتكة الشرسة ، مذ كنت صغيراً لم أتآلف إلا مع الحمائم والبلابل والأرانب والغزلان،

 كرهت الأسود والنمور والفهود والذئاب والدببة والخنازير والكواسج والتماسيح والضباع

 والحيتان النهمة الشرهة وحتى الكلاب ، قواطع وأسنان حادة كسكاكين ، ومخالب ناتئة

مدبّبة تثير رعبي وقرفي وكراهيتي ، ومعها كل جوارح الطير من صقور ونسور وشواهين

 وبواشق وبوم ، كلها أمقتها كلما تخيلت أرنباً ممزقاً في مخلب نسر شره أو صقر أو حدأة،

 أو غزال صغير جميل وقد صار مضغة هامدة مجبولة بدمها بين شدقي ذئب أو نمر أو لبوة،

 تمنّيت لو لم تخلق ومعها الأفاعي والعقارب والزنابير والجراد والفئران والصراصير والذئاب

 وحتى البعوض ، لم يلحظ أي مخلوق منها بألتماعة من ضوء كامرتي ، فقط الجمال

صورتها ، حيوان صابر جميل تلفه الصحراء بسمومها ورياحها الرملية المحترقة ، يشق

7 الريح وكل عناء بصبر عجيب محتملاً عطش أسابيع ناهضاً بأحمال البدوي وأسرته

 وصغاره ، منتظراً بهدوء – ولأيام – واحة يأنس إليها تخفّف عنه رحلاته المضنية ،

كذلك أحببت الخيل والحمير المفجوعة بشرور الإنسان وأذاه وحمقه ، صوّرت صغارها بعيونها

 السوداء الجميلة ، والحمائم والديكة ، عشت معها طفولتي ، أتأمل صورة الحمام العاشق

 في (زيارة حب) والتسمية ليست لي أيضاً ، أو تلك الحمامة المهجورة من عاشقها،

 تسرح في مخيلتي وذاكرتي مئات من الحمائم تآلفت معها من كل شكل ولون،

والديكة البهيجة بألوانها المشعّة المضيئة وبصياحها الواعد المرحّب بالفجر …

تسألونني : وجوه النساء قليلة ‍‍ هذا صحيح ، شرطان يجب أن يتوفرا في وجوه النساء

 لتحصنها كامرتي : غموض الوجه وسحر العيون ..

كلما أمتّد بي العمر وطالت السنون صار حشد من الصور والمواقف واللقطات والمواقع

 والوجوه حتى الأبواب القديمة والجدران ، والنجاحات والإخفاقات تضحّ في عقلي وخيالي،

 أتذكّر كل نبضة ضوء وشكل الكاميرا وعدستها والملامح التي أمامي، وكل الشوارع والأرصفة

 والمقاهي ، لم أكن استطيع الصبر جامداً ساكناً في ( الأستوديو ) ، ورغم آلام ظهري وتعب

 رجلّي فقد صار المشي ومتعة الاكتشاف وهذه النزهات عادة يومية مستديمة ، مرّة ومع

 الصباح الباكر ، كنت عائدا لبيتي ، لم يكن صيدي وفيراً ، انبثق وظهر أمامي كنّاسان

 نحيفان طويلان كأنهما توأم ، مرسومان بتشابه غريب ، يحملان مقشتين بطولهما وقد

 رفعاهما إلى الأعلى فوق رأسيهما كمن يتأهّب لعمل مهمّ خطير ، يحدقّان في رصيف الشارع

الملوّث بالأوساخ، تلك النظرة والوقفة وهيئة المقشتين المتهيئتين المتأهبتين للحركة ،

 أضاءت في كامرتي صورة لهما لا أنساها ، أستغرب البعض احتفائي بالكناسين والصورة

 وواجهوني أن مثل هذه المهن الوضيعة لا تستحق صوراً ، تألمت لما سمعت وزاد

حناني لذكرى الوجهين وملامحهما وأيدهما العارية المكشوفة في صباح متجّمد لا تجرأ فيه

على إخراج أصبع واحد من جيوبك … صور تخفق تهتزّ بمرحها أو تنوء بحزنها في روحي

 وضميري ، ففي ساحة للعشاق في عاصمة أوربية ، كان شاب يحتضن صديقته مغطّياً

ومالئاً شعرها ووجهها وشفتيها وعينيها ورقبتها بقبلات متلاحقة لاهثة محمومة ، على بعد

متر منهما كان شاب جميل بلا رجلين يجلس على كرسي عربة ، حزين الوجه لحدّ الفجيعة،

لم يكن ينظر إليهما رأسه منحن للأسفل ، في زاوية أخرى رأيت عجوزين عاشقين يرمّمان في

 جلستهما وعناقهما ذكرى حب وغزل قديم ، يحاولان – بيأس – القبض على شهر عسل قديم

 ضاع في زحمة العمر وعمق السنين الماضيات .. في مدينتي ووطني أنتشت كامرتي

بتصوير النفوس والوجوه ، وفي الخارج صارت المباني والحدائق والساحات والجسور والقصور

 الأثرية والكنائس القديمة والساعات الكبيرة المعمّرة ورسّامي الأرصفة وحمائم الساحات وأفواج

السّواح بؤرا متلألئة في عدسة كامرتي … لم أنس الماء ، سرّ الحياة الأبدية والخلق،

 نثرت الماء صورا لأنهار وشلاّلات وعيون ثلج وصقيع وندى .. لم أعتزل الناس ،

أحببتهم جميعاً ، لكن هذه الغابة الفسيحة الشامخة المزهوّة بأنواع الشجر ، وهذا

 النهر الساحر ، والشواطئ والجسر العتيق وسكن الصيادين وغناء طيور الماء ،

وقطعان الجاموس الهاجعة الساكنة المطمئنة في الماء البارد زخرفت ونقشت بعشرات

من الرؤوس الكبيرة سجّادة سوداء لامعة في ضوء الشمس وبقرونها المدبّبة .. كان

 الصيف لي ولعاً وعشقاً للنهر والسباحة، لم نكن نستطيع الاقتراب من شاطئ ( غسّالات الصوف )

 إلاّ عندما يضطرنا التعب والإنهاك ، أو عندما يتشنج ويلتوي لنا عصب في أرجلنا يشلّنا عن

الحركة والاستمرار في السباحة ، وعندما نفتقد أنبوب المطّاط المنفوخ أماناً مرافقاً وحامياًَ لنا ،

 حشد من النساء ، عجائز وصبايا وصغيرات يغسلن وينظّفن أكواما من الصوف الوسخ الملوّث

بالقش والغبار وحتى بالبعر ، ويسبحن في خانق الشاطئ الضيّق والمحدود ، يلاعبن الماء ،

تسمع صوت غنائهن الحزين منقولاً بالريح ، منساباً مع موج الماء ورفيف أجنحة النوارس

 الهابطة على وجه الماء والأسماك ترى حُزماً من حطب مشتعل مضيء يغلين عليه الشاي ،

 الصبايا والصغار أكثرهن صخباً وضجيجاً وحركة وتراشق ماء وضحكات وشتائم مفضوحة ،

العجائز أكثر وقاراً وصبراً وصمتاً وسكينة ، إلاّ تلك العجوز الطويلة النحيلة كمحراث – وقد

رصدناها أكثر من مرّة – وهي تروي بعد رفض وعناد قصصاً وحكايات عن الحب والعشق

 والرجال في زمنها الماضي المرتحل ، أول من يلحّ في طلب الحكايات – حتى لو كانت مكرّرة

 معادة – كنّ من المتزوجات ، وكانت فرصة للمراهقات أن يحظين بهذه المتعة اللذيذة، لم تكن

 العجوز الطويلة تجد حرجاً في رواية حكايات العشق بأدق تفاصيلها وألذّ أسرارها المستثارة ،

 لم يكن يخرس حديث العجوز ويشتّت تجمّع النساء غير زمجرة ذلك المراقب الكريه وصيحاته

 المحذّرة ، وكلّما كانت العجوز تكشف المستور، تتصاعد في وجوه العازبات حمرة الخجل

والنشوة ، كان الصيف فرحاً وبهجة  لهن ، نتلصّص عليهن ، نرى بعضهن شبه عاريات ،

لم يكنّ يرتدين غير ثوب ملصوق بالماء على أجسادهن ، فتبدوا تكويرات ونتوءات أجسادهن

 واضحة ، أما الشتاء فلم يكن رحيماً ، قسوة الماء المتجّمد وعصف ريح النهر وقد أبردها

 وجه الماء بكل برودته وزمهريره ، الشتاء الصامت الكئيب ، وصغار البنات يبكين وقد

جمّد البرد أصابعهن وأنوفهن وآذانهن ، حتى أغطية الرأس لم تكن تنفع إلا قليلاً في تخفيف

أثر رياح الماء المسكونة بالجماد ، يصمت ذلك الغناء الصيفي العذب ، وتحل الوحشة

والغيوم والضباب والعمل المتواصل الرتيب المتعب للجسد والروح …

المرأة النخلة عندما تكون عابسة غاضبة حانقة مكفهرّة ، تسلق كل النساء وهي تفرقع

شتائمها الدنيئة الحارقة ، وعندما تستكين وتهدأ وتروق ، وقد نظفت جسدها وثوبها وأصابع

 يديها الطويلة الرفيعة كمذراة من نتن الصوف ورائحة الغنم ، يسيل لسانها عذباً بالأحاديث

 الملّونة الشيقة والنكات الحارة الماجنة التي تفجّر كركرات البنات وهن يستدرجنها وينتظرن

 بلهفة الأعمق والأكثر غموضاً وبهجة في طقوس العشق المباح والمخبوء بين الرجل والمرأة

وسحرية تلك الأسرار وخفاياها .

كنت  طامعاً  أن أتصيّد طول المرأة ووجهها الشرس المعاند ، كنت حذراً ألا تضيع مني

 ولو نقطة ضئيلة صغيرة من ملامح وجهها العدواني ، ومع الومضة الخاطفة الآسرة لذلك

الوجه، علقت سنارتي بسمكة خائبة رغم أنني لم أكن مهّيئا لها بجّدية ، عندما أبتعد قاربي

 قليلاً عن شاطئ النساء الرملي ، اهتزت أذناي بهدير من كلمات زاعقة مسمومة أحرقت

 أمّي وأبي وعمري وعافيتي وعينيّ وقد تمنّت لهما العمى ، لا أدري كيف أحسّت بالخديعة،

وكيف أطمأنت ورضيت أن يقترب قاربي المغامر متجاوزاً عمق الماء إلى الشاطئ الضحل،

ربما نبّهتها إحدى النساء بأن ذلك الشاب في القارب – وكنت أراها تومئ لها نحوي بعصبية

وتهديد – قد فعل شيئاً ، وربما هي إحدى الصغيرات إذ كانت بين فترة وأخرى تهمل كومة

 الصوف أمامها لتنظر إليّ بتوجس ، الصغيرة ومن دون الجميع انتبهت للعبة الكاميرا

مهملة كومة الصوف المنقوعة ، وربما .. لا أدري كنت قد ابتعدت بما يطمئنني على صيدي

 المخبوء فرحا حتى بالسمكة المقهورة اللابطة في قعر  .. الزورق ..

عندما تلح بي الذكرى والحنين لذلك العمر البهيّ والسنين المشرقات ألجأ لصور

(غسّالات الصوف) ، يبرز لي وجه تلك المرأة العجوز الصُلبة والصغيرات النحيلات

وجبال الصوف وصوت أمواج الماء والريح وخفق أجنحة النوارس وهي تناور وتدور حالمة

 بسمكة وبالتقاط قطع من الخبز المتناثر وحبّات من طعام النساء المختلط بالرمل وبسلخ

من الصوف الوسخ المهجور الذي لم تنفع معه كل مياه النهر وجهد الأيدي المتعاونة

 الغاسلة النشيطة .. أفلحت وحققت حلم الكاميرا بصيدها الذهبي ، فرغم كل خشونة وسفاهة

 وسطوة المرأة الطويلة كعمود يابس متصلّب ، ورغم كل حذرها وانتباهتها فقد نجحت في

 اصطيادها، جئتها وحدي بقارب عتيق ومجدافين أحدهما مكسور وقصير وبكامرتي المخفيّة

التي يراها الناس في ضوء النهار وفي العلن معلّقة بحزام في رقبتي هاجعة محتضنة صدري،

اقتربت – هذه المرّة – أكثر من شاطئ النساء شاغلتها برمي سنارتي وبانتظار هادئ صبور

 لخفقة أو هزّة من الخيط الغاطس كان عصر يوم قائظ يشوي الوجوه والأجساد والأنفاس،

كانت قد انتهت من تنظيف الصوف بعد الظهر – وهذا ما حسبتُه وقدرتُه – وهي الآن

تجمع تلك الأكوام الصغيرة المتناثرة المغسولة وقد جفّفتها الشمس ، بيضاء لامعة أو

بألوان برّاقة ممزوجة بين الأسود والترابي والأحمر والقهوائي ، كانت خاملة متعبة وقد

أنهكها الحرّ ، ساعدني طولها وقامتها الشامخة أن احدّد واحصر موقعها ووقفتها بين

 حشد النساء المتحركات المتناقلات بين أكوام الصوف النظيفة المجفّفة  كنت أريد – ر

غم استمراري بالتشاغل بصيد السمك – أن تطوّق عدستي وتمسك طول المرأة وملامح

القوّة والكبرياء والتحدي في ذلك الوجه المكابر .

ذلك الفنّان الصامت الحاذق الماهر سارت به الحياة في آخر سنوات عمره ، مترنحة بمرض

 لم يعرف به إلا قليلون ، فبنصف رئة مثقوبة معطوبة ، وبدهشة للحياة متجدّدة تواصل

مصرّاً أن يحقّق مشروعه ومشواره ، لكنه الصدر المنفوخ المختنق، ونصف الرئة الممزّقة

أخمدت  ذلك الوميض وأطفأت ضياء عدساته والتماعاتها الذكّية وهي تقتنص اللحظات

 الهاربة من عمر الزمن ، الصيّاد تعب ، ربما أكمل مشواره وأجتاز كل محطّات العمر ،

وقد تكون الملامح والوجوه ما زالت منتظرة وميض  تلك الكاميرا المدهشة بحب وشوق

وحنين مات المصوّر ، وكان اسمه مراد..

 

اقرأ أيضاً: فصل من الرواية الجديدة(فورور)للروائي نزار عبد الستار

انتهى

سيرة ذاتية للقاص الراحل أنور عبد العزيز

Exit mobile version