فصل من رواية(سقوط سرداب) للروائي العراقي نوزت شمدين

تذكرت الليلة الأولى في حياتي التي قضيتها خارج المنزل بعد أن وصلت المعسكر مع عشرات

من الجنود الآخرين ونحن محشورين داخل باص نوع ريم، أخذنا من أمام مبنى دائرة التجنيد وخلفنا

أمي وخالي زياد، بسيارة التويوتا – كورونا، ومعهما حقيبة رياضية تكاد تنفجر بالثياب، وبمربى

 المشمش وجبن مثلثات البقرة الضاحكة والكليجة وقرص السمسمية وحلاوة الطحينية وكبة رز

 والعروق.

  منع حراس باب النظام أمي من الدخول ولم يعيروا أهمية لكونها زوجة الشهيد العميد ركن سالم

 أبو درع، أو تهديدها لهم بإيصال خبر إهانتهم لها إلى قريب أمها الفريق الأول ركن عبد الجبار

 شنشل وزير الدولة للشؤون العسكرية، فاضطرت لأخذي الى خلف هيكل سيارة إيفا عسكرية منزوعة

الأبواب والإطارات وهناك أعادت تلقيني وللمرة الأخيرة لما يتوجب علي الالتزام به من تعليمات

 لتجنب الذهاب إلى الكويت والعودة منها بداخل تابوت. ذكرتني بتفاصيل خطة الطوارئ التي

ترجعني إلى البيت حيث ملاذي السردابي الآمن. وعندما عانقتني مودعةً وهي تذرف الدموع،

 خفف عنها خالي بقوله أن فترة الثلاثة أشهر التي سأقضيها في مركز التدريب العسكري أقل بكثير

من مجموع الساعات التي قضاها هو في مرائب النقل بانتظار حافلات تقله إلى الوحدات العسكرية

التي خدم فيها طوال تسعة عشر عاماً وجابت به العراق طولاً بعرض من زاخو شمالاً إلى الفاو

في أقصى الجنوب قبل أن تجعله شظايا قذيفة مدفعية إيرانية معاقاً وعالةً على الوطن.

     كنت نقطة الضعف الوحيدة في الفصيل الخامس للسرية الثالثة التابعة للفوج الثاني وعارها

الأوحد. ومنذ أول هرولة صباحية لي حول ساحة العرضات، أدرك آمر الفصيل النقيب يوسف، ومعه

العريفان آمانج وعقيل بأن لا أمل لي بالانتساب إلى الدائرة القانونية كما تتيح لي شهادة كلية القانون.

 وأنني سأقضي فترة ما بعد التدريب الأساسي جندياً مكلفاً بخدمة أحد الضباط بصفة مراسل، لكوني

 الوحيد من بين خمسين جندياً في الفصيل أخطئ بين اليمين واليسار وأخلط بين إيعازي ثابت واستعد

 وأدخل نصف الفصيل في حالة من الفوضى عندما أطبق إيعاز يميناً تراصف أو عادةً سر. ولم تجدِ

 بعدها جميع عقوبات الزحف وشناو بطن والهرولة وحلاقة نمرة صفر واترك الأرض وبروك الجمل،

 في دفعي للخروج عن تعليمات والدتي وجعلي جندياً صالحاً للخدمة في الجيش العراقي. كنت وعلى

 الرغم من بكائي وصراخي من الخوف والألم والتعب، ملتزماً جدا بعبارة نفذ ثم ناقش المخطوطة

 في كل مكان داخل المعسكر ويرددها آمر مركز التدريب باستمرار ونحن نرتجف من البرد

صباحاً في العرضات. وفي أسبوع تدريبي الرابع وكان طويلاً . أشرف آمر السرية الرائد

صلاح الدين بنفسه، على وضعي نصف عار في الخيسة،  وهناك قرر بعد مناقشة قصيرة مع النقيب

يوسف، بأنني جندي مشاة ميئوس منه وسأكون حملاً ثقيلاً على باقي الصنوف أيضاً، لذا فأن أعمال

 الخدمة هي أنسب شيء لي خلال فترة التدريب الأساسي، على أن لا اقترب أبداً من المشجب.

    وهكذا قضيت الأسابيع الثمان المتبقية لي في معسكر التدريب، أساعد الفرّان في إعداد الصمون

الذي كان يشبه كرة صخرية مليئة بقطع الزجاج وشظايا الخشب والحصى. وإيصال قصعات الطعام

ودلو الشاي إلى قاعة سريتي وكنس أرضيتها من أعقاب السكائر وقشور بذور عباد الشمس. ورش الماء

 أمام بوابتها الكبيرة لطرد الغبار، وحراستها أثناء انشغال العرفاء بتعذيب زملائي بفقرات التدريب في

 ساحة العرضات مع واجب عصري بتنظيف دورة المياه ومساعدة العرفاء مساءً في كتابة ملاحظات

 عن مجريات اليوم في سجلاتهم لأنهم لم  يكونوا يتقنون القراءة والكتابة.

    أسعدتني مهامي الجديدة لأنها غير مميتة في الحرب. وهلهلت أمي فرحاً عندما أعلمتها في إجازة

الخميس والجمعة بالانتقالة النوعية في حياتي العسكرية، وتفاخرت أمام شقيقاتي بأن ذلك نتاج عقلها

 الذي “يزن بلداً”، كونها نجحت بفضل الخطط التي وضعتها في جعلي غير نافع عسكرياً، وبالتالي

 أبعدتني عن دائرة الاهتمام في الجيش، بينما ذرفت جدتي دموع فرحتها بي وقالت وهي تمسح

زجاج إطار صورة أبي في الصالة:

– حبيبي سالم أبنك صار رجال.

     ظهر الفأر أمامي مباشرةً فوق الصناديق قرب الباب المؤدي إلى حجرتي، أقترب من الحافة

بتردد وهو ينظر ناحيتي.  كنت ما أزال ممسكاً بالعصا على طريقة لاعبي البيسبول. الصوت

الذي يشبه صوتي بدأ بالعد من واحد إلى ثلاثة. كانت فرصتي كبيرة في إصابته بضربة أفقية

تكنسه وتعيد السلم إلى السرداب، لكنني لم أفعل. تقابل وجهانا للحظات، قبل أن يلتفت بأذنيه الكبيرتين

 ويتسلق جدار الخشب بسرعة خاطفة ويختفي عبر إحدى فتحات الضوء.

  العريف أمانج فعل هذا معي أيضا عندما قبض عليّ الرائد صلاح الدين متلبساً بنقل قصعة ممتلئة

 بالدجاج المسلوق من بهو الضباط إلى زملائي في الفصيل. وخلصني من بين يدي الكافر عريف

عقيل، الذي مسح بي شارع حظيرة الأمن دحرجةً وزحفاً. وتبرع أمانج بإكمال باقي فقرات عقابي

 طوال النهار خلف المستودعات. وهناك فاجأني بطيبة قلب غير متوقعة. ناولني صمونة مدنية

 وقطعاً من بسكويت مدور، وطلب مني الجلوس مقرفصاً لكي أظهر من بعيد لمن يشاهدني أنني

 أنفذ عقوبة بروك الجمل.

 سألني وهو يمسح انفه المحمر بظاهر كفه الأيسر:

– هل صحيح أن أباك محكوم بالإعدام غيابياً، وأنهم صادروا أموالكم المنقولة وغير المنقولة.

 هززت راسي نافياً :

– أبي شهيد.

    أدار وجهه الطفولي في الاتجاهين، ثم قال بصوت خافت كمن يبوح بسر كبير:

–  سمعت ضباطاً في البهو يقولون أن أباك سرق خلال الحرب مع إيران عشر مسدسات نوع

 برونيك غير مستخدمة مع ذخيرتها من أحدى المشاجب ورواتب فوج كامل كان بإمرته، وهرب

ملتحقاً بالعصاة في جبال كردستان.

   لم أكن أملك من أدوات الاحتجاج غير ابتسامة بلهاء ساخرة رسمتها على وجهي، وأنا انظر إلى

 رتل نمل أسود يسير على التراب تحتي. قلد امانج جلستي بحيث كادت أن تلتصق ركبتانا. قال بتودد:

– أياً كانت الحقيقة، فسببها الحرب وكلانا ضحية لها.

  لم أفهم ماذا يقصد بكلينا،  سألته مستفهماً، فأجاب:

– أستشهد أخي الكبير في معركة المحمرة، وعمي الأصغر في مندلي،  وهذا لم يشفع لأبي،

فأخذوه على الرغم من كبر سنه كمقاتل إلى البصرة في صفوف الجيش الشعبي.

  إمتلأت عينا امانج بالدموع وهو يقطع رتل النمل بعقب سيكارة:

– كان هذا قبل نهاية الحرب بأشهر قليلة، ولم يعد إلى البيت لغاية الآن. لم نعثر له على جثة، ولم يعلن

 الصليب الأحمر عنه كأسير في إيران، فسجل رسميا على انه مفقود.

  تكسرت نبرة صوته:

– ما ذنبنا أنا وأنت، لماذا وقع علينا كل هذا الظلم ؟.

 حاولت التخفيف عنه، لكن الكلمات لم تسعفني ورغبتي في البكاء كانت أقوى. فرحنا نبكي سويةً مثل

طفلين اكتشفا للتو أنهما يتيمان. وهكذا نشأت أول وآخر علاقة صداقة حقيقية بيني وبين شخص خارج

 أسوار المنزل.

    ندت عن قفل باب السرداب طقطقاته الثلاث المحببة. لم اختبئ هذه المرة. راقبت أمي وهي تهبط مع

 كيس مئونتي الأسبوعية السمينة. كانت متحمسة لأعلامي عن ما يدور في العالم الخارجي، لذا لم تهتم

 كثيراً بفوضى الحقائب في الحجرة الثالثة،  كما أنها لم تبد أية ملاحظة عن نظافتي الجسدية. وضعتُ

 رأسي في حجرها بعد أن جلست على فراشي مسندةً ظهرها بجدار الخشب لإراحة فقراتها. وسلمتُ

 شعري لنبش أصابعها كما اعتادت على فعله معي في حياة ما قبل السرداب.

     ذكرت بأن معظم الأهالي عادوا من القرى والبلدات الصغيرة التي اختبئوا فيها خلال الشهر الأول

 من اندلاع الحرب. وأنني الذكر الوحيد الباقي في الحي بدون واجبات أمنية، فهنالك من ذهبوا للحرب

كضباط ومراتب أو ضمن الجيش الشعبي، والطلاب والموظفون يتولون الحراسات في مداخل الحي،

 بعد أن سلمتهم الفرقة الحزبية بنادق وذخيرة وحراباً. وقالت بان الرفيق أبو يعقوب ذهب مع آخرين

 إلى الكويت كجنود احتياط، وان زوجته تقضي نهار الأحد في بيعة الفيصلية تصلي وتشعل الشموع

 من أجل عودته سالماً.

     اكتست نبرتها بالحزن وهي تصف الوضع العام في المدينة في ظل نقص المواد الغذائية

والعلاجية والمحروقات. والانقطاع التام للتيار الكهربائي والمياه، ولجوء الأهالي إلى البدائل بحفر

 الآبار في حدائقهم، أو خلط غاز الطباخات السائل بالنفط الأبيض للحصول على وقود لتشغيل

المركبات. دارت برأسها يمينا وشمالاً وهي تكرر:

– بعيداً عنك ألف مرة .

    ثم قالت وهي تضع كفها الأيمن على عينيّ وكأنها تحاول حجب الصورة عني:

– اللافتات السود انتشرت على الجدران، ومجالس العزاء على أرواح الشهداء في كل مكان.

  تاهت أمي في لحظة شرود، سألتها وأنا أمسك كفها بيديّ:

– كيف استشهد أبي، ولماذا تابوته كان فارغاً ؟.

     فاجأها سؤالي. بلعت ريقها وحركت فخذها الأيمن تحت رأسي وأخذت تبكي بحرقة. أمي

 وبخلاف ما تبدو عليها تصرفاتها من قوة وصلابة. رقيقة من الداخل مثل فراشة، والحزن لا يغادر

ملامحها. كأنها خلقت لكي تبكي. وهذا ما تسبب بإصابتها بقائمة طويلة من الأمراض كارتفاع ضغط

 الدم، والخفقان وهيجان القولون واضطرابات المعدة والصداع المزمن. وبعد فقدانها لأبي أصيبت

بجنون الأكل، حتى صارت جزءاً من المطبخ وتحولت بمرور الأيام إلى نصف فيل.

   شهقت بعمق، وقالت بأن جدتي حكت لي القصة عشرات المرات. قبلتُ إبهامها، وأخبرتها بأن لقصة

جدتي روايات عدة، وفي كل مرة كانت تضيف أحداثا وتفاصيل جديدة تختلف عن سابقتها. بعضها خيالية

 ولا يمكن تصديقها أبدا. وضعَت راحة يدها على فمي لكي أتوقف عن الكلام، قالت وهي تلصق رأسها

بالجدار :

– الرواية الوحيدة التي نعرفها جميعاً أن  قذيفة سقطت عليه مباشرة شرقي البصرة وهو يتقدم جنوده

 لصد هجوم إيراني، ولم يبق منه شيئ.

    أضيف السعال إلى نوبة بكائها، فصارت ترتج ويرتج معها الحائط الخشبي خلفها. كانت رائحة

الحناء تفوح من شعرها وأنا اقبل رأسها لاستعادتها من نوبة الهستيريا التي دخلت فيها. قالت بعد حين

 وهي تعيد رأسي إلى حجرها:

–    المهم انه استشهد دفاعا عن الوطن، وعليك أن تكون فخوراً به على الدوام.

  سمعنا صوت قرض الفأر. دفعت رأسي بعصبية ونهضت بصعوبة وهي تئن من وجع المفاصل.

نادتني من الحجرة الثالثة لأعيد الحقائب الجلدية إلى أماكنها، وطافت أرجاء السرداب مجريةً كشف

 الدلالة على الوجود ألفأري. سمعتها تقول بعد أن ضبطت كومة براز داخل هيكل مبردة الهواء:

– لا يمكن الاعتماد على حماتي في أي شيء.

***

صدرت الطبعة الولى من رواية سقوط سرداب، سنة 2015 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وترجمت إلى الكردية والأنكليزية.

أقرأ أيضا: فصل من الرواية الجديدة(فورور)للروائي نزار عبد الستار

Exit mobile version